أشرف الخمايسيّ
زَيتونةُ زَيدَان
وعصرها لآخر قطرة زيت
سيأتي عليكم من بعدي
زمان ليس فيه شيءٌ أخفى من الحَقِّ، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب.
علي بن أبي طالب
وأمَّا
نصرة الحَقِّ وإعلاء مناره، وخذلان الباطل وطمس آثاره، فأمرٌ قد التزمناه
في كُلِّ فَنٍّ.
ابن النَّفيس
مُقدِّمة
في أحد أيَّام
إبريل 2018م، استضاف الإعلاميُّ
عمرو أديب الدُّكتور يوسف زيدان في برنامجه الذي تَبثُّه إحدى الفَضائيَّات، بفقرة
عنوانها: "رحيق الكتب"، لتناول كتاب "تاريخ موجز للزَّمان"
بالمناقشة والتَّحليل؛ كان ذلك على سبيل الوفاء لمؤلِّفه ستيفن هوكينج، وكان قد
مات قبل أيَّام قليلة من تاريخ بَثّ تلك الحلقة على الهواء مباشرة.
قدَّم عمرو أديب الفقرة
تقديمًا خاطفًا، ثُمَّ أذن لزيدان في التَّحدُّث.
بدأ زيدان تناول الموضوع
بشكل دراميّ، يصف مشهدًا لرجلَين؛ الأوَّل خرج إلى الصَّحراء ليلًا، والدُّنيا
ظلام، (ومافيش كهربا!) هكذا يُؤكِّد زيدان على عتمة ظلام الليل الصَّحراويّ المحيط
بالرَّجل. نظر الرَّجل إلى فوق فرأى...
ـ شاف إيه؟
أجاب عمرو أديب:
السَّماء.
أمَّا الرَّجل الثَّاني،
فدخل بيته غاضبًا، زجر زوجته التي لم تُعدّ له عشاءً، سوى طبق فيه زيتونة.. جلس
الرَّجل حزينًا يتأمَّل الطَّبق..
ـ الرَّاجل شاف إيه في
الطَّبق؟
أجاب عمرو أديب:
الزَّتونة.
أشاح يوسف زيدان بذراعه
في فراغ الأستوديو حوله، وقال بنبرة حاوٍ يفاجئ مشاهديه بأحدث ألعابه السِّحريَّة:
لا الرَّاجل الأول شاف السَّماء، ولا الرَّاجل التَّاني شاف الزَّتونة.
ثُمَّ أخذ زيدان يتَكلَّم
بتفصيل عن حقيقة السَّماء، التي ليس بمستطاع مشاهدها رؤيتها لفرط عظم عوالمها، وعن
حقيقة الزَّيتونة، التي ليس بمستطاع مشاهدها رؤيتها لفرط صغر عوالمها.
والحَقُّ أنَّ ليس
السَّماء، أو الزَّيتونة، ما تستعصي حقائقها عن الرُّؤية بالعين المُجرَّدة، إنَّ
أشياءً وكائنات ومخلوقات لا حصر لها ولا عَدّ لها نفس هذه الخاصِّيَّة الغامضة:
ظاهرٌ يمكن رؤيته بالعين المُجرَّدة، وباطنٌ لا يمكن رؤيته إلَّا بوسائط.
من بين تلك المخلوقات
البشر، ومن بين البشر يوسف زيدان نفسه.
فقد بدا لنا، من خلال
متابعتنا لما يقوله في لقاءاته التِّلفزيونيَّة المُتعدِّدة، وما كتبه في بعض كتبه
التي أمكننا قراءتها، أنَّ يوسف زيدان مثل الزَّيتونة، ما يظهر منه ليس هو باطنه..
واخترنا الزَّيتونة، من بين مِثالَي زيدان الَّذَين طرحهما في تلك الحلقة
التِّلفزيونيَّة (الزَّيتونة والسَّماء)، توصيفًا أقرب لحجمه، إذ بقانون النِّسبة
والتَّناسب حجم يوسف زيدان أقرب فعلًا إلى حجم الزَّيتونة منه إلى حجم السَّماء..
فليس هنا إذن ثَمَّة سخرية، أو إقلال، أو انتقاص من حجم الرَّجل.
وسنسعى، عبر صفحات هذا
الكتاب الذي بين يدَيك عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة، إلى معرفة ما إذا كان ظاهر
يوسف زيدان مُتَّسقًا مع باطنه اتِّساق ظاهر الزَّيتونة مع باطنها.
لكن؛ لماذا نحن مهمومون
بظاهر الرَّجل وباطنه، ومدى اتِّساقهما؟
الإجابة بسيطة: يوسف
زيدان ليس هملا، ليس مجرد (رجل بسيط يجلس على التِّرعة ويمُرّ أمامه البَطُّ
يكاكي، ويفتي بأيِّ كلام في أيِّ موضوع)؛ بل يُقدَّم للشَّعب المِصريّ، ولجميع
الشُّعوب العربيَّة، على أنَّه المُفكِّر الذي يمنحهم التَّنوير، ويفعل ذلك بصفته
(المسلم) المستنير.
فإذا اتَّسق ظاهره
(المسلم) مع باطنه، فبها ونعمت، وأهلًا بالتَّنوير النَّابع من رغبة حقيقيَّة لمُفكِّر
(مسلم) في إصلاح حال المجتمع المسلم.
لكن إذا لم يتَّفق
الظَّاهر (المسلم) ليوسف زيدان مع باطنه، فسيكون الأمر جَدُّ خطير، إذ أنَّ أيّ
منهج، أو حتَّى كلام، تنويريّ، يطرحه الرَّجل في لقاء تلفزيونيّ ما، أو بسطور في
كتاب له، يبقى مُجرَّد زعم، لا يمكن الثِّقة فيه، أو به. فما أدراني أن يكون
تنويره ليس إلَّا فكرًا تَخريبيًّا، المراد بنشره زعزعة ثقة العالم الإسلاميّ في
نفسه، وتحييده إلى غير السَّبيل الصَّحيح، الذي إذا سلكه استعاد مجده القديم كواحد
من أهم العوالم التي قدَّمت حضارة من أكبر وأقيم الحضارات الإنسانيَّة العظيمة.
لكن، هل تَتبَّعنا جميع
المُفكِّريين لنعرف مدى اتِّساق ظاهرهم بباطنهم؟
قطعا: لا. ولن نفعل.
إذ المُفكِّرون
الأصيليُّون كامنون في صوامعهم المَعرفيَّة، عاكفون على البحث والتَّنقيب في الكتب
والمخطوطات، شغلهم تفكيرهم عن تفريغ الأوقات الطَّويلة للِّقاءات التِّلفزيونيَّة
المترادفة.. إنَّهم مشغولون عن الأضواء لدرجة صاروا معها مجهولين للعامَّة.
أمَّا زيدان فأمره
يختلف.. إنَّه عاكف على دراسة كتاب: "كيف تكون دائمًا في بؤرة الضَّوء"
(هذا عنوان مُتخيَّل؛ فلا أعرف إن كان هناك كتاب بهذا العنوان في الواقع)، ولعدم
وجود وقت لديه، فإنَّه يقرأ هذا الكتاب داخل الغرف الملحقة باستوديهات
الفضائيَّات، بينما يجلس مُستعدِّا للتَّصوير.
ولم نكن لنشغل بالنا
بالرَّجل لو كان مُهتمًّا فقط بمكانه في بقعة الضُّوء، فهذه هواية ليست مُحرَّمة
على الحقيقة.. المشكلة هي أنَّه، في سبيل الوصول إلى بغيته، يتَّبع أردأ وأسوأ
وصفة ينصح بها الكتاب المُتخيَّل: "كيف تكون دائمًا في بقعة الضَّوء"،
وهي: إذا لم تستطع أن تقول كلامًا جديدًا مدهشًا يلفت الانتباه إليك، فـ(خَبِّط في
الحِلل).
ونحن نحاول في هذا الكتاب
تحليل (تخبيطه في الحِلل)، وهل هو ناتج عن قناعات شَخصيَّة مخبوءة تحت ما يُظهره
من قناعات، أم مُجرَّد افتعال ضجيج للفت الانتباه إليه، مهما كان ضجيجًا خطرًا على
عقول المشاهدين.
لهذا نحن مهمومون
باتِّساق ظاهر وباطن يوسف زيدان تحديدًا.
كيف نكتشف وجود هذا
الاتِّساق من عدمه؟ بأيِّ وسيلة يمكننا فعل ذلك؟ وبأي طريقة؟
نكتشف ذلك بالوزن.
سننتقي وحدة وزن،
أخلاقيَّة، يمكننا بها ضبط قدر الرُّجولة في جوهر كُلّ ذكر؛ والحقيقة أنَّ
الرُّجولة لازمة فعلًا لكُلّ امرئ ذكر، إذا أراد أن تكون لأفعاله، أو حتَّى
لأفكاره، قيمة حقيقيَّة، ليست مُلفَّقة، أو مُزوَّرة.
ثُمَّ، بوحدة الوزن
المنتقاة هذه، نزن يوسف زيدان كرجل يقدم لنا نفسه في كتبه (غير الأدبية) كمُفكِّر،
ويقدمه لنا الأعلام المصريُّ في فضائيَّاته المُتعدِّدة كـ(مُفكِّر)
أيضًا.
بخصوص الإعلام؛ اخترنا
حلقة له من حلقات "رحيق الكتب"، مع الإعلاميّ عمرو أديب، وكانت حول كتاب
"الإسلام وأصول الحكم" للشَّيخ على عبدالرَّازق، الكتاب الذي أحدث
ضجيجًا كبيرًا وقت نشره لأوَّل مَرَّة عام 1925 ميلاديَّة؛ وهي الحلقة، من بين معظم الحلقات التِّلفزيونيَّة
التي ظهر فيها زيدان، التي أراها تكشف بوضوح عمَّا إن كان ثَمَّة فرق بين ظاهر هذا
الرَّجل وباطنه.
وبخصوص ما يكتبه؛ اخترنا
كتابه الأشهر في هذا الشَّأن: "اللاهوت العربي". لأنَّه الكتاب الأقدر
على تقديم أفضل صورة مُقرَّبة لـ: كيف يفكر زيدان؟ والإجابة حاسمة في تحديد مدى
اتِّساق خارج الرَّجل مع داخله، وإذا كان يَستحقّ لقب "مُفكِّر".
وليوسف زيدان تجَلٍ ثانٍ
كأديب، وليست لدينا مشكلة مع تجلِّيه هذا، حتَّى وإن كان أديبًا فالصو (وهو ليس
فالصو وقد كتب روايته البديعة: "عزازيل"، وإن جاءت جميع رواياته، سواها،
فالصو). ولأنَّنا لسنا بإزاء مشكلة مع أدبيَّاته، لأنَّها في النِّهاية كتابة
حُرَّة، غير مُقيَّدة بما تُقيَّد به كتب العلم والفكر، فلن نهتَمّ بالنَّظر في
زيدان أديبًا.
مع ما سبق لم يكن اهتمامي
بالرَّجل بلغ حَدّ أن أخصَّه بكتاب حول أفكاره، إلى أن كتبت منشورًا على حسابي
الألكترونيّ بالفيسبوك يتناول شخص زيدان بسخرية بالغة القسوة. والحَقُّ أنَّني
قصدت ذلك عمدًا، فقط لأشعره بقسوته المفرطة عندما يتناول هو الآخر بسخرية
واستهجان، ونبرة متعالية، ومطالباته الدَّائمة إلى إزاحة هذا الآخر بمزاعم
مُتعدِّدة، أبسطها التَّخلُّف! يفعل ذلك دون تقديم محتوى فكريٍّ جَيِّد يُملي به،
على هذا الآخر، عيوبَه بتفهُّم واحترام. فقَرَّرت، بالمنشور المذكور، أن أذيقه من
نفس الكأس؛ أن أتجاهل أفكاره السَّطحيَّة التي عرضها في حلقة تليفزيونيَّة مع
الإعلاميّ وائل الإبراشيّ، وقد قال فيها إنَّ على المسلمين في زمن الكورونا ألَّا
يصوموا رمضانهم، أو يجامعوا نساءهم! وأنَّ الأمر في ذلك لا يرجع لرجال الدِّين،
وإنَّما للأطبَّاء! وجادل الرَّجل في مسألة لا تحتاج إلى جدال، لهذا تناولت شخصه
دون تناول كلامه، لعلَّه يشعر بما يفعل.
لكن زيدان لم يشعر سوى
بالإهانة، فدخل مُعلِّقًا على المنشور يسبُّني ويشتمني بأقذع الشَّتائم؛ فأدركت
أنَّ الرَّجل لم يفهم، وربما لن يفهم.
وكان أن جرت مهاتفة
تليفونيَّة بيني وبين الأستاذ مصطفى النَّجَّار، صاحب المؤسَّسة للنَّشر
والتَّوزيع، تناولنا فيها بعض المسائل المُتعلِّقة بنشر سلسلة "سيرة عرب
أقدمين"، من حيث تنسيق السِّلسلة وتصميم أغلفتها، فانحرف الكلام إلى ما جرى
منِّي تجاه زيدان، فإذا بالأستاذ مصطفى يسألني عن مدى استعدادي لتأليف كتاب في هذا
الشَّأن، وأنَّه سيقوم بنشره على الفور.
تردَّدت قليلًا، أفكِّر
في جدوى الكتاب، فوجدت أنَّ جدواه كبيرة، وسيكون نافعًا بإذن الله في إضاءة الجزء
الذي يخصّنا من شَخصيَّة الدكتور يوسف زيدان، هذا الجزء الذي قد يؤثِّر فينا بشكل
مباشر، أو غير مباشر؛ ذلك الجزء منه الذي أسمَوه بـ"المُفكِّر".
وإذا كان زيدان لم يفهم،
وربما لن يفهم، فالكتاب ليس لزيدان، وإنَّما لمتابعي زيدان، أو لمن يشغلهم أمره،
لعلَّ من لم يفهمه يفهمه، ومن يفهمه يفهمه أكثر.
على هذا، أخذت قراري بتأليف
الكتاب.
والحَقّ أنَّه لم يستهلك
منِّي وقتًا طويلًا، وإن كان استنزفني جهدًا وكَلًّا، صرفتهما في البحث والتَّنقيب
لمراجعة ما يقوله زيدان بما هو مثبت تاريخيًّا، هذا غير اضطراري لمشاهدة، وسماع،
ساعات طويلة من لقاءاته التِّليفزيونيَّة، وتدوين ما يقوله حَرفيًّا، ليكون شاهدًا
صحيحًا، ومَوضوعيًّا، مطروحا بين يدي قارئ هذا الكتاب.
وقد بدأنا هذا العمل باسم
الله الرَّحمن الرَّحيم، وأنهيناه بحمد الله رَبّ العالمين، نسأله الصلاة والسلام
على النَّبيّ مُحمَّد، صلاة وسلامًا دائمَين متلازمَين إلى يوم
الدِّين، والإخلاصَ في القَول والعمل، والتَّوفيق إلى ما يُحبّه
ويرضاه، والتجاوز عَنَّا إذا كان ثَمَّة خطأ أو نسيان.
أشرف
الخمايسي
القاهرة
في
14 رمضان 1441 هـ
مايو 2020 م
تمهيد
وحدة وزن الرِّجال
نعرف أنَّ الجرام وحدة
وزن المثاقيل، وأنَّ السّنتيمتر وحدة قياس المسافات، وأنَّ اللتر معيارًا
للسَّوائل، والدِّيسبل قياسًا للأصوات، والفولت قياسًا للكهرباء.
فما هي وحدة وزن
الرِّجال؟
الكيلو جرام وحدة وزن
أجرام الذُّكور من البشر، لكن الرِّجال ليسوا مجرَّد هذه الأجرام المادِّيَّة
المُصوَّرة بأجسامهم.
الرِّجال أخلاق.
فما هي وحدة وزن الأخلاق؟
إذا أردنا تقدير القيمة
الأخلاقيِّة لرجل ما في سوق الإنسانيَّة، فبأي مكيال، أو معيار، نزنه؟
أبالصِّدق، أم بالأمانة،
أم بحفظ العهد، أم بإنجاز الوعد، أم بصيانة السِّر، أم بالقدرة على كتم الغيظ، أم
باستطاعة التَّسامح، أم بالنُّبل في الخصومة؛ أم بغيرها من الصِّفات المحمودة،
العديدة، التي ستطرأ على البال إذا بذلنا المزيد من التَّفكير؟
إذا كان الرَّجل صادقًا،
سيكون بالضَّرورة أمينًا، حافظًا للعهد، منجزًا للوعد؛ لكن ليس بالضَّرورة أن يكون
الصَّادق كاتمًا للغيظ، مستطيعًا للتَّسامح.
وإذا كان متسامحًا،
فسيكون بالضَّرورة خصمًا نبيلًا؛ مع ذلك ليس كُلّ متسامح يصون السِّرَّ، أو ينجز
الوعد.
فما هي الصِّفة الحميدة،
الجامعة لكُلِّ الفضائل، الصَّالحة لأن تكون وحدة وزن الرِّجال؟
بالقراءة في التَّاريخ
والاجتماع والفلسفة، مع خبرة مكتسبة بمكابدة الحياة، توصَّلت إلى أنَّ المروءة هي
الصِّفة الجامعة لكُلِّ الخلاق الحميدة.
لا يكون الرَّجل ذا مروءة
لو افتقد الصِّدق، أو افتقد التَّسامح، أو لم يكن خصمًا نبيلًا إذا استدعته
الظُّروف إلى مواطن الخصومة.
المروءة إذن هي الصِّفة المعياريَّة.
فإذا كانت جميع الموجودات
لها طبائع هي منها بمثابة الرُّوح من الكائن الحَيّ، فما روح المروءة؟
أقصد: ما الطَّاقة التِّي
تمنح صفة المروءة الحياة والفاعليَّة؟
قبل الإجابة على هذا
السُّؤال أوضِّح لك عزيزي القارئ، وعزيزتي القارئة، أنَّ ما أخاطبك به ليس تكرارًا
لما سبق وقاله الآخرون، وإن تشابه بعضُه ببعض ما قالوه، هذا التَّشابه النَّاجم
حتمًا من تشابه الحقائق.
فأنا من الكُتَّاب الذين
يقرأون ولا يهتمُّون بحفظ أجمل ما قرأوه من حكم، أو أشعار، أو فلسفات، أو خلاف ذلك
مِمَّا يُمكن ترديده في مجالس السَّمر بزهو. إذ يهتمّ بالحفظ من يحتاج إلى الحفظ،
كأهل الخطابة في الجماهير، من سياسيِّين يدلون بالبيانات، أو رجال الدِّين يلقون
المواعظ، أو مِن هؤلاء الشَّغوفين باستعراض ما حصَّلوه من ثقافة، ليظهروا وكأنَّهم
من أهل الثَّقافة.
انتهى زمن الحُفَّاظ مع
انتشار وسائط الحفظ الألكترونيَّة، وعلينا توجيه كُلّ الطَّاقة العقليَّة للإنتاج
الفكريّ.
أنا أسعى بالقراءة إلى
التَّنمية، تغذية جوهري، ليُثمر لي حكمتي الخاصَّة، أمارس بها حياتي؛ وإذا أضيف
لذلك كوني كاتبًا، فأنا في مسيس الحاجة لأن أضيف إلى رفوف الحكمة الإنسانيَّة
كتابي الحامل لوجهة نظر مُميَّزة، طازجة، مهما تشابهت، كما كتبنا قبل سطور، مع
حِكم الغَير، ولا بُدَّ من أن تتشابه إذا كان الخالق واحدًا، والمخلوق نوعًا
واحدًا اسمه الإنسان.
خصوصيَّة الحكمة لدى كُلّ
امرئ تتعلَّق ببصمته الأخلاقيَّة الخاصَّة. ها هي البصمة لدى كُلّ شخص، متشابهة
جِدًّا لديهم جميعًا، مع ذلك لكُلّ بصمة خصوصيَّتها المُفردة، التي تُميِّزه عن
غيره.
خصوصيَّة الكاتب لا
تتَحقَّق بحفظ ما جاء في الكتب التي قرأها، لا تتحَقَّق بأن يضع ما قرأه نصب
عينَيه كالوثن، يردِّده كما يُردِّد المريد التَّمائم والصَّلوات المُقدَّسة، يعكف
على صيانته بالمزيد والمزيد من الحفظ.
لا أظنُّ القراءة بهذه
الكيفيَّة إلَّا قراءة العبيد، والعبيد أجبن من التَّقدُّم إلى الفعل والتَّغيير
دون أوامر مسبقة، أوامر توجيهيَّة.
القراءة الصَّحيحة هي أن
يلقي القارئ بما قرأه في معدته الهاضمة، وفقط.
وليترك الأمر بعد ذلك إلى
طبيعته؛ إذا كانت طبيعته أرضًا خصبة فستُثمر قراءته حكمته الخاصَّة.. أما إذا كانت
طبيعته أرضًا جرداء، أو صحراء، فلن تثمر شيئًا، أو قد تثمر ما هو مُرّ، أو سُمّ..
وقد يستفاد بالمرارة والسُّمّ.. هذا أفضل من يكون القارئ، أو القارئة، عبدَ أفكار الغير،
يُطوِّف حولها إعلاءً وتقديسًا، دون إنتاج.
نعود إلى سؤالنا: ما هي
الطَّاقة التِّي تمنح المروءة الحياة والفاعليَّة؟
إنَّها: العقل. فكُلَّما
اقترب العقل من الكمال أينعت المروءة.
طَيِّب؛ ما هي الطَّاقة
التي تمنح العقل الحياة والفاعليَّة؟
إنَّها: المرونة.. تمنح
المرونة العقل قدرة هائلة لمناورة الأفكار، واصطياد أبعدها تحليقًا في سماوات
الفكر.
ليكن؛ ما هي الطَّاقة
التي تمنح المرونة الحياة والفاعليَّة؟
إنَّها: الطَّبع..
كُلَّما كان الطَّبع طَيِّعًا كانت المرونة أطوَع.
ماشي؛ ما هي الطَّاقة
التي تمنح الطَّبع الحياة والفاعليَّة؟
إنَّها: المروءة..
المروءة تُليِّن الطَّبع وتُهذِّبه.
هكذا؛
بـ"المروءة" انغلقت الدَّائرة مثلما ابتدأت بها! فتصبح هي نقطة الافتراق
والتَّلاقي.. وربما لهذا السبب تصلُح وحدةً لوزن الرِّجال.
وسنزن بها ـ عبر صفحات
هذا الكتاب ـ يوسف زيدان، إذ بهذا المعيار فقط يمكننا التَّعرُّف على درجة اتِّساق
ظاهر هذا الرَّجل مع باطنه.
زيدان
بين الكتابة والإعلام.
1
اللاهوت العَربيّ.
كتب الشَّيخ على
عبدالرَّازق مُستهلًّا كتابه "الإسلام وأصول الحكم" بعد البسملة:
"أشهد أن لا إله إلَّا الله، ولا أعبد إلَّا إيَّاه، ولا أخشى أحدًا سواه. له
القُوَّة والعِزَّة، وما سواه ضعيف ذليل، وله الحمد في الأولى والآخرة، وهو حسبي
ونعم الوكيل".
يقول الدُّكتور مُحمَّد
عمارة، المُفكِّر الإسلاميّ الشَّهير، في مُقدِّمته لمجموعة دراسات عن هذا الكتاب:
"منذ أن عرفت الطِّباعة طريقها إلى بلادنا لم يحدث أن أخرجت المطبعة كتابًا
أثار من الضَّجَّة، واللغط، والمعارك، والصِّراعات، مثلما أثار هذا الكتاب. على
أنَّ المرجع في كُلّ ذلك لم يكن إلى مُجرَّد القَضيَّة الفِكريَّة التي دار من
حولها البحث، والجرأة التي تناول بها مُؤلِّفه الموضوع، وإنَّما كان مَردُّ الكثير
من النَّقع الذي أثير، والصَّخب الذي اشتَدَّ مجيء هذا الكتاب سهمًا نافذًا وجَّهه
المرحوم الشَّيخ علي عبدالرَّازق إلى الرَّجل الجالس على عرش مصر يومئذ (سنة 1925 م)
الملك أحمد فؤاد..".
ثُمَّ يقول في جزءٍ
مُتقدِّم من دراسته: ".. ولنتعلَّم الشَّيء من شجاعة هؤلاء، الذين اجتهدوا،
وقالوا ما يعتقدون دونما رهبة من (الذَّات المصونة) التي ترَبَّعت على العرش في
بلادنا (قبل يوليو سنة 1952م)".
أقول: وقد وضعتُ أنا
القوسَين الأخيرَين حول جملة: قبل يوليو سنة 1952م. فالجملة لا لزوم لها في السِّياق، إلَّا إذا كُتِبَت
على سبيل التّقية؛ يقصد الدُّكتور عمارة بكتابتها التَّأكيد للرَّقابة وقتهاعلى
أنَّه لا يقصد حاكم مصر وقت تناوله لكتاب "أصول الحكم" بتلك الرَّسائل؛
وكان جمال عبدالنَّاصر، الذي عُرِف عن نظام حكمه البطش الشَّديد بمعارضيه، ربما
بدرجة لا تقارن مع بطش الملك أحمد فؤاد بهم.
وفي مقتطف أخير، نجتزؤه
من دراسة الدُّكتور مُحمَّد عمارة، يقول: ".. فإنَّ كتاب (الإسلام وأصول
الحكم) لم يكن بحثًا اكاديميًّا من أبحاث السِّياسة، أو علم الكلام عند
المُفكِّرين والمُثقَّفين المسلمين، وإنَّما كان، بالدَّرجة الأولى وقبل كُلّ شيء،
جهدًا سِياسيًّا في معركة سِياسيَّة حامية، بل ضارية، وقائمة على قدم وساق، كما
كان تَحدِّيًا لعرشٍ ومَلكٍ بكُلِّ ما وراءهما من قوى وإمكانيَّات، كما كان مناوءة
لقطاعات عريضة محافظة في مختلف أنحاء العالم الإسلاميّ.. وفوق كُلّ ذلك كان أحد
العوامل التي أفسدت على الاستعمار البريطانيّ، في مصر والشَّرق الإسلاميّ،
النَّجاح والاستفادة من (لعبة) الخلافة هذه".
أمَّا الشَّيخ علي
عبدالرَّازق، في جزء من مُقدِّمته القصيرة لكُتيِّبه الخارق، يقول: "وإنِّي
لأرجو ـ إن أراد الله لي مواصلة ذلك البحث ـ أن أتدارك ما أعرف في هذه الورَيقات
من نقص. وإلَّا فقد تركت بها، بين أيدي الباحثين، أثرًا عسى أن يجدوا فيه شيئًا من
جدَّة الرَّأي، في صراحة لا تشوبها مماراة..".
وإذا كُنَّا اتَّخذنا من
كتاب "الإسلام وأصول الحكم" مُنطلقًا لتناول كتاب "اللاهوت
العَربيّ"، فلم نفعل ذلك اعتباطًا، وإنَّما لأنَّه بالضِّدِّ يتَّضح
الضِّدُّ، فبالنَّهار يتَّضح الليل، وبالحرارة تتَّضح البرودة، وهكذا دواليك من
الثُّنائيَّات التي تتَّضح بالأضداد.
هذا غير أنَّ كتاب
"الإسلام وأصول الحكم" كان مسرحًا للحلقة التَّلفزيونيَّة التي استضاف
فيها الإعلاميُّ عمرو أديب يوسفَ زيدان للكلام عنه؛ وسنُفصِّل كيف أنَّ هذا
الإعلاميّ، على ضحالة ثقافته وسطحيَّة قراءاته، تمَكَّن من حصار زيدان بالمنطق،
حتَّى لم يحر المُفكِّر جوابًا سوى اللجلجة.
وما كتبه الشَّيخ على
عبدالرَّازق في مُقدِّمته لكتابه "الإسلام وأصول الحكم" يوضِّح المنهاج
الذي يجب على المُفكِّر الحُرّ سلوكه إذا أراد مُخلصًا إزاحة حدود العقل للتَّضييق
على الجهل، والتَّوسيع للوعي.. إنَّه: جراة الطَّرح دون خشية أحد إلَّا الله (إذا
كان مؤمنًا)، أو الضَّمير (إذا كان غير ذلك).
والمقتطفات التي سقناها
من دراسات الدُّكتور مُحمَّد عمارة حول كتاب "الإسلام وأصول الحكم" تكشف
إلى أي مدى كان الشَّيخ (المُفكِّر) علي عبدالرَّازق جريء التَّناول، جهورَيّ قول
الحَقّ، وإن أدَّى به ذلك لأن يكون ضَحيَّة جهة من ثلاث جهات شديدة الخطورة وقتها،
(وهي ذات الجهات الثَّلاث شديدة الخطورة في كُلّ وقت): النِّظام الحاكم (يُمثِّله
الملك أحمد فؤاد)، والتَّقاليد الدِّينية البالية (يُمثِّلها الوعي الجَمعيُّ
للشَّعب)، والهيمنة العالميَّة الاستعماريَّة (تُمثِّلها بريطانيا).
مع كُلّ هذه المخاطر
الكبيرة المُحدقة لم يكتب الشَّيخ علي عبدالرَّازق في كتابه ذلك جملة واحدة
مهادنة، أو محايدة، أو محابية.. ولم يستعمل علامة التعجُّب مُطلقًا، العلامة التي
تشبه خائنة الأعين، لا يلجأ إليها ذوو المروءة، في حين يلجأ إليها الخائفون
أحيانًا، والماكرون كثيرًا، يُحمِّلونها المعاني التي لا تستطيع ألسنتهم الجهر
بها، إمَّا خوفًا من العواقب، أو رغبة في العطايا.
وجاء كتاب، أو بالأحرى
كُتيِّب: "الإسلام وأصول الحكم" ـ وهو كُتيِّب لأنَّه لا يزيد عن سبعين
صفحة من القطع المُتوسِّط ـ دقيقًا للغاية، انتهج طرق البحث العِلميّ بمهارة، فلم
يُورِد معلومة خاطئة؛ وإن كان يُمكِن الاختلاف حول الفكرة التي طرحها، لأنَّ
لأدلَّته مناحي أخرى غير المنحى الذى سار فيه الشَّيخ المُفكِّر، لكن هذا لا يمنع
من أنَّ أدلَّته صحيحة تمامًا، خالية من المغالطات.
وقد جاء كتاب
"الإسلام وأصول الحكم" مُفعمًا بوجهة نظر جديدة، وإن كان لها أصلٌ قديم،
لكنَّه (ذلك الأصل القديم) اختفى تحت ركامات فِقهيَّة تَضخَّمت بانقضاء القرون
قرنًا تلو قرن، لتصير في حجم الأهرامات؛ بحيث صارت إزاحة الأهرامات عنه، وكشفه، هو
عمل فَذٌّ عَبقريٌّ، لا غضاضة في وصفه بالجِدَّة والحداثة. والنَّتائج تحكم على
جودة العمل وفرادته، فـ"الإسلام وأصول الحكم" مُجرَّد كُتيِّب صغير، مع
ذلك قلب المنطقة العَربيَّة، والعالم الإسلاميّ كُلّه، رأسًا على عقب حين صدوره،
مُشعلًا مئات المعارك الفكريَّة التي دارت رحاها الطَّاحنة في مختلف الأوساط
السِّياسيَّة والدِّينيَّة والشَّعبيَّة.
أمَّا الأرضيَّة
العقائديَّة التي انطلق منها الشَّيخ على عبدالرَّازق لهدم فكرة فِقهيَّة
إسلاميَّة عتيقة بعمليَّة فكريَّة تنويريَّة حديثة هي أرضيَّة إيمانيَّة سليمة؛
فالشَّيخ مُسلمٌ صحيح الإسلام، مُحبٌّ له، لا يجادل فيه، وإنَّما يجادل عنه؛ فإذا
كان قَرَّر قطع الخلافة (كمفهوم دِينيّ) عن الحكم في البلاد التي تدين بالإسلام،
فإنَّه يقطع غصنًا قد جَفَّ ويبس، وصار بقاؤه مُعلَّقًا بالشَّجرة يجهدها ويضعفها،
أو ـ على الأقلِّ ـ يذهب بجمالها كشجرة رَبيعيَّة خضراء.
إنَّه إذن يقطع الغصن
مَحبَّة في الشَّجرة.
فمهما اكتشفنا بعد ذلك
أنَّ الغصن لم يكن يابسًا على الحقيقة، وأنَّ الشَّيخ ربما أخطأ، فإنَّه خطأ لا
يقدح في إيمان الشَّيخ بوَحدانيَّة الله تعالى، على منهج رسوله مُحمَّد، صلَّى
الله عليه وسلَّم.
الانطلاق من أرضيَّة
واضحة المعالم (عند تناول المسائل المُتعلِّقة بالعقائد)، مهما كانت معالم هذه
الأرضيَّة: إيمانيَّة، أو غير ذلك؛ يُكسِب النَّتائج مِصداقيَّة وثِقة.
فهل جاء كتاب يوسف زيدان
"اللاهوت العَربيّ" على نفس الدَّرجة من النَّزاهة، والدِّقة،
والشَّفافيَّة، وحداثة الفكرة المطروحة، ومَنهجيَّة البحث العِلميّ، كما جاء عليه
كتاب "الإسلام وأصول الحكم"؟
هل كان زيدان جريئًا
وشجاعًا مثل عبدالرَّازق؟
هل انطلق من أرضيَّة
عقائديَّة واضحة كما فعل الشَّيخ المُفكِّر؟
هيا بنا إلى زيدان في
لاهوته العَربيّ.
نبذة تَعريفيَّة بكتاب
"اللاهوت العَربيّ".
هو كتاب يقع في 225 صفحة تقريبًا، قطع أكبر من المُتوسِّط.
يناقش فكرة ارتباط الدِّيانات السَّماويَّة الثَّلاث: اليَهوديَّة، والمَسيحيَّة،
والإسلام. ودوائر التَّداخل فيما بينهم، وما دفع بالمَسيحيَّة إلى ابتداع علم
اللاهوت، وما دفع بالإسلام إلى ابتداع علم الكلام، وإلى أي مدى تأثَّر علم الكلام
باللاهوت، وكيف أنَّ لجغرافيا الهلال الخصيب أثرها البالغ في هذا التَّأثر،
مُؤكِّدًا على أنَّ علم الكلام الإسلاميّ ما هو إلَّا امتداد أصيل لعلم اللاهوت
المَسيحيّ؛ على هذا فهو يُؤصِّل لمُسمَّى يطرحه بكتابه هذا لأوَّل مَرَّة، ألا
وهو: اللاهوت العَربيّ.
نبذة عن
علم اللاهوت المَسيحيّ.
أبسط
تعريفات علم اللاهوت أنَّه: محاولة لفهم الله كما هو معلن في الكتاب المُقدَّس
(الإنجيل)، وقد اعتمد اللاهوتيُّون المَسيحيُّون على التَّفكير العقلانيّ لتحقيق
ذلك، واستخدموا هذا العلم في المقارنة بين المَسيحيَّة والأديان الأخرى؛ وللذَّبّ
عنها حال تَعرُّض أيّ من عقائدها أو طقوسها للهجوم.
مع ذلك،
فإنَّ علم اللاهوت الذي أراد به اللاهوتيُّون المَسيحيُّون صيانة عقيدتهم من
الانحرافات الفِكريَّة الضَّالَّة صار هو نفسه مَبعثًا للهرطقات، ما نجم عنه
تَشتُّت الشَّعب المَسيحيّ بين عدد من الكنائس المختلفة، أتباع كُلّ واحدة منها
يُهرطِقون أتباع الأخرى.
نبذة عن
علم الكلام الإسلاميّ.
وسُمِّي
هذا العلم بـ"علم الكلام" لِما قيل: من أنَّ أوَّل مباحثه كانت طبيعة
القرآن الكريم، كلام الله، أهو خالق أم مخلوق؟ كما قيل: إنَّ المُتكلِّمين قديمًا
كانوا إذا ابتدؤا محاضراتهم قالوا: "الكلام" في كذا. وقيل أيضًا: لأنَّ
العلم ينموا ويربوا بـ"الكلام".
وفي التَّعريف بهذا العلم قيل:
إنَّه علم لإثبات العقائد الدِّينيَّة، مُكْتَسَبة من أدلَّتها اليَقينيَّة:
القرآن، والسُّنَّة الصَّحيحة؛ لإقامة الحجج، والبراهين العَقليَّة
والنَّقليَّة، ورَدّ الشُّبهات عن الإسلام.
وقيل: إنَّ علم الكلام أُسِّس في
بدايات القرن الأوَّل الهجريّ، و لم يكن تأسيسه وتدوينه إلَّا لضرورة دَعت إليها
حاجة المسلمين إلى صيانة دينهم وعقيدتهم وشريعتهم من هجوم الأفكار المُضادَّة،
التي شاعت إثر الاحتكاك الثَّقافيّ بين المسلمين وغيرهم، وبسبب ترجمة الكتب
الفَلسفيَّة والاعتقاديَّة للفرس واليونان؛ فلم يجد المسلمون سبيلًا إلاّ
التَّسلُّح بالبراهين العَقليَّة، كي يصونوا بذلك معتقداتهم، ويدافعوا عنها.
ولهذا العلم محاور رئيسة، عليها مداره، منها:
البحث في صفات الله، وإثبات الذَّات الإلهيَّة؛ ومنها حكم النُّبوَّة، وعصمة
الأنبياء، صلوات الله عليهم وسلامه، بين الوجوب والجواز عقلًا؛ ومنها الإمامة،
والآراء المختلفة حول نيابة النَّبيّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، في أمور الدِّين
والدُّنيا؛ ومنها اليوم الآخر، وإمكانيَّة نشر العباد فيه.
نقول: مع ذلك انحرف هذا العلم عن مقصده الأوَّل:
الدِّفاع عن الإسلام ضد الأفكار المُضادَّة؛ ليتحَوَّل هو نفسه إلى مهاجم شرس
للإسلام، عبر استيلاد أفكار اعتبرها علماء الإسلام، بالقرآن وصحيح السُّنَّة،
مُضادَّة للإسلام، لفرط ما فيها من بدع وأباطيل، ما كان نتيجته الحَتميَّة تفرُّق
المسلمين إلى عدد من الفِرق، ما بين مؤمن بأفكارها، فيراها الفرقة النَّاجية،
ومهاجم لها، فيراها إحدى الفرق البضع والسَّبعين الضَّالَّة.
الفرق بين الخطأ والغلط.
اتُّفِق على أنَّ من
معايير البحث، سواء كان عِلميًّا أو فِكريًّا، هو: الدِّقَّة.
أي أن يكون الباحث دقيقًا
جِدًّا في عرض الاستدلالات والمعطيات التي توافرت له، والتي بترتيبها وتضفيرها
وتوظيفها يتَمكَّن من إنشاء بحثه إنشاءً صحيحًا؛ إذا لم يكن الباحث دقيقًا، حاضر
الذِّهن، أخطأ يقينًا، ما يترَتَّب عليه خروج بحثه، العِلميّ أو الفِكريّ، على درجة
غير لائقة بالبحث الرَّصين، المُفيد.
إذن، ما يترَتَّب على عدم
الدِّقَّة هو الخطأ.
وقالوا في تعريف الخطأ:
إنَّه الفعل، أو القول، يجانبه الصَّواب على كُلِّ حال، فلا يكون صحيحًا من أي
وجه.
كما اتُّفِق على أنَّ من
المعايير الأخلاقيَّة للباحث، سواء كان عالمًا أو مُفكِّرًا: أن يكون حياديًّا،
مَوضوعيًّا، غير منحاز (تَعصُّبًا) لآرائه الخاصَّة.
وكلمة: (تَعصُّبًا) من
عندي.
فإذا فقد الباحث أيًّا من
هذه الصِّفات، فقد البحث مِصداقيَّته، وامتنعت عنه الثِّقة، إذ يصير الباحث ليس
باحثًا عن الحقيقة، بقدر ما هو يلوي ذراع الحقائق، ويسوقها عنوة، لتأكيد ما
(يتعَصَّب) له من أفكار، أو آراء.
وما هو لوي ذراع الحقائق
إن لم يكن المغالطة بعينها!
فقالوا في تعريف الغلط:
إنَّه القول، أو الفعل، الصَّحيح في جوهره، لكنَّه يُوضَع في غير مَحلّه.
الأخطاء، والمغالطات، في
كتاب "اللاهوت العربي".
1 ـ في مُقدِّمة هذا الكتاب، فَرَّق يوسف
زيدان بين (الوثن) و(الصَّنم)، كآلهة عبدها النَّاس قديمًا، فقال: "تجدر
الإشارة إلى الفارق الدَّقيق بينهما؛ فالوثن هو ما كان على صورة وهيئة محدودة، مثل
سيرابيس والعجل أبيس عند المصريِّين قبل انتشار المَسيحيَّة، أو أثينا وفينوس
وبوسيدون وبقيَّة آلهة اليونان القديمة، أو هبل وأساف ونائلة عند عرب قريش قبل
الإسلام؛ وغير ذلك من الأوثان التي طالما قدَّسها الإنسان. أمَّا الصَّنم فهو
المعبود الذي لا يَتَّخِذ هيئة محدودة، مثلما هو الحال في أصنام اللات، التي كانت
غالبًا أحجارًا بيضاء مُكعَّبة الشَّكل".
ثُمَّ، في الفصل الثَّالث
من الكتاب، أكَّد يوسف زيدان هذه التَّفرقة، عندما تحدَّث عن التَّصوُّر اللاهوتي
عند عرب الجزيرة وأهل الهلال الخصيب، الرَّافض للرَّبط بين صورة الله وصورة
الإنسان، فقال: "ومع أنَّ النَّاس هناك صَوَّروهم أحيانًا على هيئة بَشريَّة
في (الأوثان)، أو هيئة مُجرَّدة في (الأصنام)....".
والأقواس، في الفقرة
الأخيرة، من وضع يوسف زيدان نفسه، ما يُؤكِّد فهمه لهذه الممايزة بهذا الشَّكل.
لكن يأتي إجماع العلماء
بهذا الأمر على عكس ما أورده زيدان.. فـ(الأصنام) هي المنحوتات التي تُصوِّر
الآلهة بهيئة بشَريَّة؛ و(الأوثان) هي المنحوتات التي تُصوِّرها مُجرَّدة، أو
تُصوِّرها بهيئة حيوانات، أو نباتات، أو غير ذلك من صور مختلفة.
إذن ارتكب زيدان خطًأً
بمقارنته هذه، وهو خطأ غير مُؤثِّر في موضوع الكتاب، لكنَّه خطأ لا يليق بمُفكِّر.
2 ـ في مُقدِّمة الكتاب أيضًا، وعند
التَّحدُّث عن طبيعة الخطابات المُقدَّسة، قال يوسف زيدان: ".. استهلَّ
القرآن خطابه الإلهيّ بالآيات الأولى من سورة البقرة، وهي الآيات المُؤكِّدة أنَّ
المُتَّقين هم {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ} سورة البقرة الآية 4 . مع أنَّ اليهود والمَسيحيِّين، وهم عند المسلمين أهل كتاب،
لم يزعموا أنَّ كتبهم نزلت من السَّماء، وإنَّما يعتقدون أنَّها كُتِبت بوحيٍ.
وشتَّان بين التَّنزيل والوحي".
ومفردة (زعم) في المعاجم
العربيَّة تمنحنا معاني المدح في حال دمجها بكلمات مثل: اللبن، أو المال، أو أسماء
أشخاص، فـ(زعم اللبن) تعني أنَّ اللبن أخذ يطيب؛ و(زعم فلان بالمال) تعني أنَّه قد
كفل به؛ و(زعم فلان بعمرو) تعني أنَّه كفيل به.
ثُمَّ إنَّ هناك معنى
لمفردة (زعم) اتَّخذ موضعًا وسطًا بين معاني الذَّم والقدح. وهو: القول يكون
حَقًّا، ويكون باطلًا. فإذا شَكَّ أحدُهم في صِحَّة قول ما، فلم يعرف إن كان
باطلًا أو حَقًّا، قال: زَعَمَ فلان.
أمَّا أسوأ معاني هذه
الكلمة، هو المشهور استخدامًا، حتَّى أنَّه طغى على جميع معاني المدح خاصَّتها؛
وهو: الادِّعاء. فـ(زعم) ساطعة، في مفاهيم التَّلقي عندنا، بأنَّها: ادَّعى.
وقال اللهُ تعالى:
{فَقَالُوا هَذَا لِلهِ بِزَعْمِهِم}، وفسَّرها المُفسِّرون؛ أي: بقولهم الكذب.
أقول: فإذا كان اليهود
والمسيحيُّون (لم يزعموا) أنَّ كتبهم نزلت من السَّماء، فإن الذين (زعموا) ذلك، من
وجهة نظر زيدان هم المسلمون.
فهل يعتقد زيدان أنَّ
مسألة تنزيل القرآن من السَّماء ما هي إلَّا ادِّعاء وكذب، أقرَّه المسلمون، ليس
سواهم؟
إذا كان زيدان يعتقد ذلك،
فهو ليس على مِلَّة الإسلام، وإذا كان الأمر كذلك فإننا ندينه، لا ندينه لأنَّه
ليس على هذه المِلَّة، فهو حُرٌّ، وقد قال الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ
دِين}؛ بل ندينه لأنَّه لا يملك الشَّجاعة اللازمة لمُفكِّر يجب أن ينطلق من
أرضيَّة عقائديَّة مكشوفة، خصوصًا إذا ناقش مسألة عَقديَّة، وإلَّا فهو أشبه ما
يكون بالجاسوس، يتَمتَّع بجِنسيَّة دولة ما، ثُمَّ يعمل لصالح دولة أخرى ضِدّ
الدَّولة المُتمتِّع بجنسيَّتها.
وفي مجال الفكر هذا عار،
وأيّ عار!
3 ـ ثُمَّ نأتي إلى ما صرَّح به في آخر
فقرته السَّابقة، قائلا: "شتَّان بين التَّنزيل والوحي".
ما يعني أنَّه يرى فرقًا
واسعًا بين (التَّنزيل) و(الوحي)، وهو ما لا تراه معاجم اللغة
العربيَّة، وقد اتَّفق جميعها على أنَّ معنى كلمة (تنزيل) إذا اختُصَّت بالشَّأن
المُقدَّس: هو الوحي.
فـ{تَنْزِيلُ الكِتَابِ
مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيم} تعني: الوحي به.
و: أنزل الله الكلام على
أنبيائه، أي: أوحى به إليهم.
وكذلك معنى كلمة (وحي)
إذا اختُصَّت بالشَّأن المُقدَّس هو: ما يُوحِي به الله إلى أنبيائه من كلامٍ
لعباده. وفي القرآن الكريم: {إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوْحَى}.
إذن ليس ثَمَّة فارق
يُذكَر، تُظهِره المعاجم، بين (التَّنزيل) و(الوحي) في الخطاب المُقدَّس لدي ما
يحلو لزيدان تسميته بـ(الدِّيانات الثَّلاث الرِّساليَّة، أو الإبراهيميَّة)،
خصوصًا لو انتبهنا إلى ما تعَمَّد زيدان عدم الانتباه إليه رغم وضوحه؛ وهو أنَّ
المَسيحيِّين لا يشُكُّون مُطلقًا في أنَّ إناجيلهم، مع تَعدُّدها، موحًى بها
إليهم من روح القُدُس، وروح القُدُس عندهم هو: الأقنوم الثَّالث من أقانيم الله
الواحد، ما يعني أنَّهم بدورهم (يزعمون) أنَّ أناجيلهم قد أُنزِلت إليهم من
السَّماء، إلَّا إذا كان زيدان يمتلك معلومات تفيد أنَّ روح القُدُس يقيم في منطقة
أرضيَّة نجهلها نحن، ويعلمها هو.
إذن، محاولة زيدان تلبيس
بعض المصطلحات بغير معانيها هي مغالطة واضحة.
4 ـ قال يوسف زيدان في مُقدِّمة كتابه:
اللاهوت العربي؛ أيضًا: "ومعروف أنَّ الدِّيانات المُسمَّاة اعتباطًا
بالوثنيَّة، كان كُلّ دين منها يُفسح مساحةً لغيره من الدِّيانات (الوثنيَّة)
الأخرى، المختلفة عنه. ولم نعرف، تاريخيًّا، أنَّ هؤلاء الوثنيِّين تقاتلوا يومًا
فيما بينهم، من أجل إعلاء ديانة وثنيَّة فوق ديانة وثنيَّة أخرى".
نرى، بهذه الفقرة، كيف
استنكر زيدان وصف الدِّيانات التي صَوَّرت آلهتها بتماثيل الأحياء والجمادات
بـ(الوَثنيَّة)، رغم أنَّه هو نفسه قدَّم تعريفًا سابقًا لها بأنَّها كذلك!
ثُمَّ نفهم من سياق كلامه
المعنى الذي استهدفه ولم يجرؤ على التَّصريح به، وهو أنَّ هذه الدِّيانات
الوثنيَّة هي الدِّيانات الأمثل، والأفضل، من أيِّ ديانة من الدِّيانات الثَّلاث
(الرِّساليَّة): اليهوديَّة، والمسيحيَّة، والإسلام؛ لأنَّها كانت ـ على حدِّ
تعبيره ـ تُفسِح المساحات للأديان الأخرى؛ ثُمَّ يجزم جزمًا باتًّا بأنَّه لم يعرف
عبر التَّاريخ أنَّ ديانة وَثنيَّة قاتلت أخرى سعيًا للاستعلاء.
وهذا خطأ جسيم يرقى إلى
درجة المغالطة.
ولأنَّ الملحوظة
التَّالية تدور في نفس المنطقة تقريبًا، فسَنؤجِّل التَّعليق لمكانه المناسب.
5 ـ يعود زيدان للتَّأكيد على فكرة عدم
تصارع الدِّيانات الوَثنيَّة في الفصل الثَّالث، وعنوانه: النُّبوَّة والبُنوَّة،
فيقول: "هذه الدِّيانات الموسومة بالوَثنيَّة، التي عاشت آلاف السِّنين في
مصر واليونان، كانت تسمح بالتَّعدُّدية. ولم تزعم ديانة منها أنَّها الدِّيانة
الوحيدة الحَقَّة".
نُعلِّق على
الملحوظتَين 4 و5، فنقول:
يشرع زيدان في بناء
مغالطة كبرى بإصرار كبير؛ إذ الحقيقة الدَّامغة هي أنَّه لم تتعدَّد الأديان في
حضارة ما، في زمن ما، إلَّا وتعدَّدت الصِّراعات بين المؤمنين بها. إنَّها حقيقة
لصيقة بالطَّبائع البشريَّة الفِطريَّة، ومعلومة من التَّاريخ بالضَّرورة. لذلك
لنا أن نعجب لرجل مُتخصِّص في دراسة المخطوطات التَّاريخية ثُمَّ يهرف بهرافة
السَّلام بين أتباع الدِّيانات الوثنيَّة!
لكن، ما يشرع زيدان في
بنائه من مغالطة كبرى ينهدم بمعلومتَين فقط بسيطتَين، نستدعيهما من تاريخنا
المِصريّ القديم، تثبتان أنَّ الأديان الوَثنيَّة القديمة لم تكن يومًا على
الدَّرجة من طيبة القلب، والسَّلام الديني، التي يُصوِّرهما عليها الرًّجل.
الأولى: صراع الإله حورس
مع الإله ست.
عندما اكتشف الإله
الأوَّل أنَّ الإله الثَّاني قتل أباه الإله أوزوريس. فقيل إنَّ المصريِّين
القدماء عانوا كثيرًا بسبب هذا الصَّراع، فقد كان المصريُّون هم الجند الذين دارت
الحرب بينهم. وقد أوشك جنود حورس، وكانوا يُسمُّون بالـ(ماسينو)، على هزيمة جند
الإله ست في النُّوبة، التي كانت معقله.
كما ذُكر أنَّ الإلهة
سخمت أوفدها الإلهُ الأكبر رع لتأديب البشر؛ فسفكت دماءهم سفكًا بشعًا؛ فكيف ستسفك
دماءهم بدون جنود من المصريِّين القدماء، الذين سيقتلون مصريِّين آخرين لا يؤمنون
بسخمت؟
الثَّانية: الصِّراع
الكبير الذي دارت رحاه بين أتباع الإله آتون وأتباع الإله آمون.
وكان صراعًا طويلًا،
امتدَّ منذ عهد تحتمس الرَّابع وحتَّى نهاية عصر أخناتون، على مدى 50 سنة تقريبا، وقيل إنَّ أخناتون نفسه
كان أحد ضحاياه، وعلى من يرغب في التَّعرُّف على تفاصيله قراءة كتاب: "موسوعة
مصر القديمة"، للعلَّامة المِصريّ سليم حسن.
فإذا كانت آلهة مصر
القديمة قد تصارعت فيما بينها بحرب كان وقودها المؤمنون بها، فإنَّ مصر، من العالم
القديم، مثل غصن من شجرة، يحمل نفس مواصفاتها، ما يعني أنَّ الآلهة القديمة، في
مختلف حضارات العالم القديم، قد تصارع المؤمنون بها فيما بينهم، وسفك بعضُهم دم
بعضِهم انتصارًا لها، واستعلاءً بها.
فإذا كان الأمر على هذا
الوضوح الجليِّ، فما السَّبب الذي يجعل رجل مخطوطات، مثل يوسف زيدان، يغضّ الطَّرف
عن صراعات الآلهة القديمة إلى درجة إنكار حصولها، ليُقدِّم تلك الدِّيانات القاصية
بصورة نزيهة لم يكن لها وجود في الواقع؟ أهو الجهل، أم العبث المُتعمَّد؟ فإذا
كُنَّا موقنين من أنَّ زيدان، كمُتخصِّص، أبعد ما يكون عن الجهل بمثل هذه الحقائق
التَّاريخيَّة البسيطة، فأيّ رسالة يريد بثّها في ذهن قارئ كتابه بواسطة هذا العبث
المُتعمَّد؟
6 ـ نقول: إذا كانت الدَّالَّة ليست
أصيلة، ودَعيَّة، تُساق عنوة لتأصيل فكرة كاذبة، فلا مناص من تساقط البناء
الفِكريّ كُلّه في لحظة خاطفة.
حدث هذا فيما يمارس زيدان
نشاطه في لوي ذراع الحقائق لمزيد من التَّأكيد على سموِّ ورقيِّ الدِّيانات
الوَثنيَّة القديمة، عندما أتبع فقرته السَّابقة بهذه السُّطور: "وكانت هذه
الدِّيانات تجيز التَّمازج أحيانًا بين الرُّبوبيَّة والبَشريَّة. أو هي بالأحرى
لا ترى بأسًا في تأليه الإنسان وتأنيس الإله. فالملك الفرعون في مصر القديمة هو
(ابن الشَّمس)، أو (ابن الإله)، أو هو المفعم بالوجود الإلهيِّ، أو هو القابل
أصلًا للتَّأليه!".
علامة التَّعجب، آخر
الفقرة، ليست من وضعي؛ إنَّها من وضع يوسف زيدان نفسه؛ ونحن نفهم أنَّ علامة
التَّعجُّب يستخدمها الكاتب إذا أراد لفت انتباه قارئه إلى أمر، أو شعور، غير
مفهوم؛ أو إذا أراد استنكار أمرًا مفهومًا.
فإذا كان مفهومًا جِدًّا
ليوسف زيدان أنَّ مصر القديمة ألَّهت ملوكها، فلماذا استنكر هذا التَّأليه؟
أقرب الإجابات المحتملة:
لأنَّه لا يفتأ يظهر علينا بصورة المُثقَّف والمُفكِّر الكاره، والرَّافض،
للحُكَّام المُستبدِّين، فهل من استبدادٍ أفدح تَجبُّرًا من تأليه الحاكم؟
ها هي الدِّيانات
الوثنيَّة (التي اجتهدت لتقديم الإله في صورة مُثلى، على حَدِّ تعبيره في فقرة
سنوردها لاحقًا) قد جعلت من الحُكَّام آلهة؛ فإذا كانت هناك آلهة، فلا بُدَّ من أن
يكون لها عبيد؛ فهل من عبيدٍ للحُكَّام الآلهة سوى الشُّعوب؟
فأيّ صورة (مُثلى!)،
قدَّمتها الدِّيانات الوثنيَّة للآلهة، إذا كانت ساهمت في إضافة المزيد من استعباد
الملوك لشعوبهم، درجة تسخيرهم إجبارًا وقسرًا وقهرًا في بناء المعابد الكبيرة،
والبنايات الشَّاهقة مثل الأهرامات، والمقابر الملكية العميقة في القلب الصَّخري
لجبل القرنة، غربي مدينة طيبة القديمة؟
وبدلًا من أن يستدرك
زيدان خطأه، بإبطال انبهاره بمِثاليَّة الدِّيانات الوَثنيَّة، أو حتَّى بكتابة
تعليق توضيحيّ يناسب هذه المفارقة الزَّاعقة بالتَّضادِّ بين التَّأصيل
والنَّتيجة، إذا به يكتفي بوضع علامة استفهام في نهاية الفقرة، وفقط.
علامة قد لا ينتبه
لوجودها القُرَّاء، فيعلُق الكثير منهم في الفَخّ الذي نصبه لهم بخصوص ادِّعائه مثاليَّة
الدِّيانات الوثنيَّة؛ إمَّا إذا انتبهوا، فلاموه على ادِّعائه، فيُمكنه
التَّخلُّص بأن يقول لهم بنبرته المتعالية المعتادة: ألا تنتبهون إلى علامة
التَّعجُّب؟
ونحن نتَعجَّب فعلًا؛ ليس
فقط من النَّهج (فاقد المروءة) الذي ينتهجه يوسف زيدان في طرح ما يُزكِّيه، أو ما
يرفضه، من أفكار وحوادث يطالعها في كتب الفلسفة، والتَّاريخ، وغيرها، ثُمَّ يعيد
إلقاءها على أسماع مريديه في القاعات، أو يسطرها لهم في كتبه. بل نتعَجَّب، أيضًا،
من قدرته على التَّواءم مع نفسه في حال تناقضت أفعاله مع أقواله!
فالرَّجل لا يترك فرصة لإعلان
مقته وكرهه للحُكَّام وأهل السُّلطة، خصوصًا هؤلاء المستبيحين لدماء النَّاس،
إلَّا واهتبلها، مع ذلك لا يجد غضاضة أبدًا في المسارعة إلى تلبية دعوات بعض هؤلاء
الحُكَّام، إذا ما وَجَّه إليه الدَّعوة، تحت أيّ عنوان!
وربما، في نهاية كتابي
هذا، أعرض تَصوُّرًا للسَّبب الذي يدفع بزيدان لفعل ذلك، مهما تسَبَّب في إظهاره
بصورة مُشوَّشة لا تليق بمُثقَّف، أو مُفكِّر، عَصريٍّ، خَلُصَ بمدارسة التَّاريخ
والفلسفة على امتداد العصور إلى أنَّ المُثقَّف والمُفكِّر الأصيلَين،غير
الزَّائفَين، لا بُدَّ لهما من أن ينأيا تمامًا عن مواقع القصور، أيَّا كانت هذه
القصور: رئاسيَّة، أو مَلكيَّة.
7 ـ في الفصل الأوَّل، المعنون بـ: جذور
الإشكال، قال الدكتور يوسف زيدان: "بعدما اجتهدت الحضارات الإنسانيَّة
القديمة في تقديم صورة مُثلى للإله المُتسامي، المُحتجب في عليائه (آمون في
المصريَّة القديمة تعني: المختفي)، المُفيض بالخير على الكون، واهب الحياة
والرَّحمة، المُتجلِّي منذ القدم في صورة أنثويَّة (إيزيس، عشتار، إنانا، أرتميس)
العادل، الكامل، البَهيّ، الباهر".
ولنُركِّز انتباهنا على
هذه الجملة تحديدًا: (المُتجلِّي منذ القدم في صورة أنثويَّة). لأنَّها تكشف عن
السَّبب المضاف، الذي من أجله ادَّعى يوسف زيدان مثاليَّةً مزعومة للدِّيانات
الوثنيَّة. إنَّه السَّبب المُتمثِّل في: الإله الأنثى؛ أو: أنثويَّة الإله.
ونحن، هنا، لسنا بسبيل
دحض فكرة أنثويَّة الإله، كما لا نهدف إلى حرمان يوسف زيدان من حَقِّه في أن يرى
ما يراه، والتَّعبير عنه بمنتهى الحُرِّيَّة، لكنَّا، بالأكيد، بسبيل كشف زيفه
الفِكريّ، وافتقاده المروءة اللازمة لتكوين مُفكِّر أصيل.
فهو، بفقرته السَّابقة
تلك، على إجمالها، لا يُقدِّم لنا جديدًا، فالطَّنطنة هي نفسها تلك الطَّنطنة التي
ظهرت قبل بضعة عقود ، تلعب على وتر ألوهيَّة أنثويَّة طاغية كانت في الأزمنة
البشريَّة القديمة، وكيف كانت الرَّبَّة الأنثى، وقتها، مسيطرة ومهيمنة، تُسيِّر
شؤون الحياة. في حين أنَّ القراءة في هذا الموضوع بتفَرُّع، وتَعمُّق، وحياديَّة،
تكشف عن محاولات ساذجة لاختراع دور للمرأة لم يكن دورها يومًا؛ بحيث يُبَثّ في
روعها أنَّ دورها في رعاية البيت، وتربية النَّشأ، هو دور تافه لا يليق بها،
لأنَّها كانت من قبل إلهة مهيمنة يعبدها الرِّجال.
والحقيقة الاجتماعيَّة
الأكيدة، التي أثبتها التَّطوُّر المعاصر، هي أنَّ دور المرأة في بيتها، تجاه
أبنائها وزوجها، واحد من أعظم الأدوار الإنسانيَّة على الإطلاق. لكن، ولأسباب لم
يَتمّ الكشف عنها بعد، تجري محاولات دؤوبة لنزع المرأة من مكانها الطَّبيعيّ، الذي
تثمر فيه قدراتها، وتينع به طبائعها، فانطلقوا في سبيل ذلك يُصوِّرون أمر الإله
الأنثى بأكبر مِمَّا كان عليه؛ مستندين إلى مُجرَّد تخمينات عِلميَّة، وتقديرات
استقرائيَّة، لم يتَمتَّع إحدها يومًا بخِصلة الثَّبات التي تجعلها أساسًا
عِلميًّا رصينًا وصارمًا.
لقد عبد القدماء آلهة
أنثويَّة لا لأن الأنثى كانت مهيمنة، وإلَّا بأي شيء هيمن طائر أبو منجل (الإله
تحوت)، أو التِّمساح (الإله سوبك)، أو ابن آوى (الإله أنوبيس)، أو القطة (الإلهة
باستيت)، أو العجل (الإله أبيس)، وغيرها من الكائنات التي عُبدت، على البشر كي
يتَّخذوها آلهة مقدَّسة؟
لكنَّا نعرف أنَّ أيًّا
من هذه الكائنات لم يهيمن يومًا على البَشريَّة، مع ذلك تَمَّ تأليهها، لما
تمَيَّز به كُلٌّ منها بخصالٍ وصفاتٍ ليست لغيرها بنفس القُوَّة والوضوح، فصارت
رموزًا لها؛ إنَّ الخصال والصِّفات هي المقصودة بالتَّقديس، فانسحب تقديسها إلى
الأوعية التي فاضت بها، لتصير الأوعية بدورها رموزًا مُقدَّسة.
وقد رمزت المرأة قديمًا
للخصوبة، فهي أصل الجنس المُفجِّر للحياة، الذي به تُزرَع النَّبتة، مرورًا بدم
طمثها، إشارة خصوبتها، وحملها، ثُمَّ الإثمار بالولادة. كان الرَّجل القديم يضع
بذرته في العديد من النِّساء، فتلد هذه، وتلك لا تلد، فارتبطت الخصوبة في ذهنه
بالمرأة، باعتبارها الأرض التي منها ما هو خصب، ومنها ما هو قاحل، فاحتفل بالأرض
الولود، أو المرأة المثمرة، إذ لم يكن يعلم بعد أنَّ دوره في الإخصاب والإثمار، أو
عدمهما، لا يَقلّ أهمِّيَّة عن دور شريكته المرأة.
بعد فترة انتبه لذلك،
فألَّه عضوه الذَّكريّ!
ومن الشُّعوب القديمة من
ألَّه المرأة باعتبارها رمزًا للمعرفة، تلك النَّاتجة عمَّا تتمَتَّع به من قدرة
كبيرة على المكر والكيد.
ومنهم من عبدها باعتبارها
رمزًا للشَّراسة والقُوَّة، لما عرفوه عنها من قدرة تحريضيَّة على القتال والحرب.
نقصد: إنَّ المرأة الإلهة
لم تكن يومًا من أيَّام الزَّمن القديم هذا الإله المهيمن على جميع الآلهة، والذي
كان دومًا ذكرًا، وإنَّما كانت إلهة رامزة، معبِّرة عن
خصلة أو صفة تميَّزت بها الإنثى.
ولأنَّها كانت الإلهة
الرَّمز، لا الإله المُهيمن، اختفت الإلهة الأنثى رويدًا رويدًا من تاريخ الإنسان،
وظَلَّ الإله الذَّكر ساطع التَّجلِّي؛ ثُمَّ مع نماء الوعي البَشريّ، وتَطوِّر
فكره باتِّساع معارفه، تهيَّأت الظُّروف لظهور الدِّيانات السَّماوية، التي أبقت
على مخاطبة الله، تعالى، بالصِّيغة المُذكَّرة، وتوحيده باستبعاد جميع الآلهة
الوَثنيَّة الذُّكوريَّة السَّابقة، ونفي الصِّفات البشريَّة عنه. ربما هذه هي
الإجابة الأقرب للصِّحة على السُّؤال الذي طرحته الدُّكتورة نوال السَّعداوي في
كتابها المعنون: "الوجه العاري للمرأة العَربيَّة"، عندما قالت: لم
يستطع أحد أن يرُدّ على سؤالي: لماذا اختفت الإلهة الأنثى من تاريخ الإنسان، ولم
يعد إلَّا الإله الذَّكر في الأديان السَّماويَّة (الحديثة)؟
والقوسان حول كلمة:
الحديثة؛ من وضعها.
أقول: ربما يعيد يوسف
زيدان طرح النَّظريَّات الهشَّة، الخاصَّة بهذا الشَّأن، ليغازل الجمعيَّات
النِّسائيَّة الصَّاعدة مَحلِّيًّا وخارجيًا، فقضيَّة المرأة في أوطاننا العَربيَّة
بمثابة دجاجة تبيض ذهبًا للمُثقَّفين والمُفكِّرين من مُتبنِّي مظلوميَّة المرأة،
المنادين بفَكِّ أسرها من معتقل الرَّجل الشَّرقيّ! وكأنَّ الرَّجل الشَّرقيّ
حُرٌّ تمام الحُريَّة، ليس مأسورًا، بدوره، في المعتقلات المَعنويَّة والمادِّيَّة
للاستبداد السُّلطويّ الحاكم في بلادنا!
يُدرِك يوسف زيدان أنَّه
لن يحوز صفة (الاستنارة) إلَّا إذا أسبغ على الدِّيانات الوَثنيَّة القديمة صفة
المثاليَّة، فقط لأنَّها تمَيَّزت بتأليه المرأة!
8 ـ ومن أخطاء زيدان، السَّاذجة، ما
أورده في خاتمة كتابه، عندما قال: "إنَّ التَّاريخ الإسلاميّ، مجمله
وتفصيلاته، يُؤكِّد أنَّه لولا الدَّولة ما كان الدِّين، ولولا التَّشريعات
العَمَليَّة ما كانت العقائد الإسلاميَّة، ولولا الجهاد ما انتشر دين الله بين
العباد".
والحقيقة التي لا تخفى
على الباحث متواضع الإمكانيَّات، فضلًا عن باحث مخطوطات يُوصَّف بـ(المُفكِّر!)،
هي أنَّ التَّاريخ الإسلاميّ لم يبدأ إلَّا بتوحيد أَوس العرب وخزرجهم في المدينة
المُنوَّرة، ليجعل منهم النَّواة التي توَحَّد بها عرب شبه الجزيرة قاطبة، وكان
هؤلاء العرب على مدى عشرات القرون الضَّاربة في التَّاريخ القديم مُجرَّد قبائل
مُتفرِّقة، متصارعة فيما بينها، أو دُويلات صغيرة في اليمن جنوبًا، أو في الهلال
الخصيب شمالًا.
لقد نفخ الدِّين في العرب
روح الدَّولة، قبل أن تنفخ الدَّولة فيهم روح الحضارة.
ثُمَّ لأعجب كيف تصَوَّر
زيدان، وهو (المُفكِّر!)، أنَّ التَّشريع يمكن أن يتقرَّر في أيِّ مجتمع قبل إقرار
عقيدته! هل يمكن إقرار الدُّستور، أو حتَّى القانون، قبل إقرار المجتمع أوَّلًا؟
هل يمكن وضع الضَّوابط لكيان ليس له وجود؟ هل يمكن تعبيد الطَّريق إلى جهة لم
تُحدَّد بعد؟
أيمكن صنع (البردعة) إن
لم تُوجَد دَابَّة الرُّكوب!
أمَّا بخصوص الجهاد، فلا
يُنكَر دوره في انتشار رقعة الإسلام، مع ذلك تبقى محاولة لصق انتشار الإسلام
بالسَّيف، دون غيره، أبعد ما تكون عن الحقيقة، إذ كان للأخلاق الإسلاميَّة
الرَّاقية دورها في وصول الإسلام إلى مناطق سحيقة من العالم، لم تصلها جحافل جيوش
الإسلام؛ كما كان لهذه الأخلاق الرَّاقية دورها الرئيس في تمكين الإسلام من قلوب
أهل البلاد التي سبق فتحُها بالسَّيف.
لكن، قبل مغادرتك هذه
الفقرة، عليك ألَّا تنسى أنَّ زيدان في "اللاهوت العَربيّ" قَرَّر
أنَّه: (لولا الدَّولة ما كان الدِّين)، فستحتاج إلى تذكُّرها في الفصل القادم.
9 ـ وليوسف زيدان مثالب أخرى في هذا
الكتاب، غير خوضه في مستنقع الأخطاء، ومحاولة بنائه للمغالطات؛ منها: ادِّعاء
اكتشاف ما سبق اكتشافه.
ففي حاشية توضيحيَّة، من
مُقدِّمة كتابه، بخصوص آية قرآنيَّة نُودِيت فيها مريم بأخت هارون، يقول:
"... يبقى بعد ذلك إشكال آخر، مفاده أنَّ العذراء، في القرآن، هي مريم بنت
عمران، والمفروض أنَّها بحسب الأناجيل والأصول المسيحيَّة ابنة يواقيم. وبحسب
التَّوراة والأصول اليهوديَّة فإنَّ هارون وموسى النَّبيّ كانت لهما أخت اسمها
مريم، وهي الأخت التي تَمرَّدت على أخيها موسى حينًا من الدَّهر، فعاقبها بأن
طردها، ثُمَّ ردَّها استجابة لوساطة أخيهما هارون. وعلى كُلّ حال، فإنَّ ما ذكره
القرآن الكريم من أنَّ مريم (العذراء) كان لها أخ اسمه هارون هو أمر ليس بأيدينا
سند تاريخيٌّ يُؤكِّده، ولم تورد النُّصوص المسيحيَّة المُقدَّسة أيَّ إشارات
إليه. ويرى باحثون معاصرون أنَّ معنى نداء القرآن لمريم بأخت هارون، يعني: أيَّتها
المُنتسِبة إلى آل هارون. كما يُقال في كلام العرب: يا أخت تميم، ويا أخت قريش،
أي: يا ابنة قبيلة تميم، أو يا ابنة قبيلة قريش. ولذلك فَسَّر المسلمون الوصف (أخت
هارون) بأنَّ العذراء كانت من سبط هارون".
أقول: ها هو يوسف زيدان
هنا (يُطبِّل في المِتطبِّل)، على حسب ما جاء في بعض أمثالنا الشَّعبيَّة
المصريَّة التي تستهجن من يُجهد نفسه عملًا في ما عُمِل من قبل، أو: يُعيد ويَزيد
في ما لا يَستحقَّ الإعادة ولا الزِّيادة؛ إذ سبق وتَمَّ توضيح: لماذا كان
النِّداء: (يا أخت هارون)، بهذه الصِّيغة، في عشرات التَّفسيرات القرآنيَّة. وأوشك
جميعها أن يتَّفق، بانطباق تامّ، على التَّوضيح الذي أورده يوسف زيدان، نفسه، في
الجزء الأخير من فقرته هذه، وقد أورده إيرادًا محايدًا تمامًا، رغم أنَّ التَّوضيح
عقلانيٌّ جِدًّا، وكان يَستحقّ دعم الرَّجل ولو بكلمة واحدة تُقرّ عقلانيَّته مع
ذلك لم يفعل.
فليس من المعقول أن
يدَّعي القرآن أخوَّةً لأبٍ واحدٍ، بين امرأة (مريم، أُمُّ المسيح عليه السَّلام)
ورجل (هارون، أخو موسى عليهما السَّلام)، وقد عاشا في زمنَين متباعدَين جِدًّا، لا
يقل المدى الزَّمنيُّ بينهما عن ألف وخمسمائة عام!
فأين الإشكال الذي يريد
زيدان إثارته أصلًا؟
لكنَّه الطَّرح السَّاذج،
إذا افترضنا البراءة. أو الطَّرح الخبيث، إذا افترضنا سوء الطَّويَّة المقصودة
لإثارة الشَّكّ حول صِحِّيَّة القرآن الكريم.
وما يُؤكِّد سوء طَويَّة
زيدان هو إشارته إلى أنَّ المُحقِّقين ليس لديهم سند تاريخيٌّ يُصحِّح ما أورده
القرآن في شأن أخوَّة مريم بهارون! ثُمَّ يعود ويُحكِّم النَّصوص المسيحيَّة
المُقدَّسة في الطَّرح القرآنيّ!
وكأنَّ النُّصوص
المَسيحيَّة المُقدَّسة هي النُّصوص المُحكَمة تاريخيًّا!
وهكذا، يُخضِع زيدان
القرآن مرَّة للتَّاريخ، ومرَّة لرسالة سابقة عليه، ما أُنزِل من السَّماء إلَّا
لتصحيحها، أو على الأقلّ لتطويرها؛ فيَحكُم بالنَّاقص على الكامل، وبالأقَلِّ على
الأكثر! وهذه سخافة لشدّ ما هي ممجوجة عقلًا، غير أنَّ يوسف زيدان قد تمَيَّز بها.
10 ـ ثُمَّ ها نحن هنا إزاء نوع آخر من
المثالب التي تمَسّ مِصداقيَّة الباحث؛ ألا وهي: خبث الطَّرح، وذلك في ما أورده
بخصوص من عرف في التَّاريخ الإسلاميّ بمُسيلمة الكذَّاب، وذلك في الفصل الثَّالث،
المعنون بـ: النُّبوَّة والبنوَّة. في معرض سرده لأسماء أنبياء عرب ظهروا قبل
البعثة المُحمَّديَّة، ولم يقبلهم اليهود، فقال: "... لمَّا عرف العرب
النُّبوَّة، من قبل ظهور الإسلام بزمن طويل، صار لهم انبياء مثل رجال الله
المذكورين في الكتب اليَهوديَّة المُقدَّسة. ولم يعترف اليهود طبعًا بهؤلاء
الأنبياء العرب، الذين ابتدأ ظهورهم، بحسب الاعتقادات العربيَّة القديمة، منذ
أيَّام بُختنصَّر، الذي ظهر في زمانه النَّبيُّ حنظلة بن صفوان، الذي بعثه الله
إلى أهل الرَّسِّ، فكذَّبوه وقتلوه. وفي هذا الزَّمان أيضًا كان النَّبيُّ شعيب بن
ذي مهدم، الذي أرسله الله إلى أهل حضور باليمن، فقتلوه.. وقُبيل الإسلام، ادَّعى
النُّبوَّة مُسيلمة بن حبيب الحنَفيّ، وهو المُسمَّى من بعد: مُسيلمة الكذَّاب!
وكان ظهوره بمَكَّة، وهو أوَّل من تسَمَّى بالرَّحمن، وبرحمان اليمامة، وكانت له
ديانة تَوحيديَّة تقول بإلهٍ واحدٍ للكون هو: الرَّحمنُ رَبُّ العالمين. وقُبيل
الإسلام أيضًا كان في بني عبس نَبيٌّ اسمه خالد، نُسبت إليه معجزات باهرة، وقد
زارت ابنتُه، بعد وفاته، نَبيَّ الإسلام، مُحمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم، فبسط
لها رداءه على الأرض مُرحِّبًا بها، وقال: هذه ابنة نَبيٍّ ضَيَّعه قومه".
سبق وأن اتَّفقنا على
أنَّ الكاتب إذا وضع علامة تعجُّب، بنهاية جملة ما، فإنَّه إمَّا يريد لفت انتباه
قارئه إلى أنَّ هذه الجملة، تحديدًا، تطرح خللًا فِكريًّا يحتاج التَّأمُّل،
وإمَّا أنَّ الجملة مفهومة فهمًا صحيحًا لكنَّه يستنكر معناها.
وزيدان كثيرًا ما يستخدم
علامة التَّعجُّب، ولسنا ضِدّ كثافة استخدامه لها، لكنَّا ضِدّ طريقة استخدامه
لها. فالكاتب الجريء يضع علامة التَّعجُّب، ثُمَّ يشرح لماذا وضعها، غير آبه
بالعواقب التي قد تثيرها توضيحاته الصَّادمة؛ أمَّا الكاتب المُتردِّد، الخائف،
فإنَّه يضعها ويتوَقَّف، ليمُرّ عليها الكثير من القُرَّاء غير النُّبهاء دونما
انتباه إليها، فلا تتَحقَّق فائدة وضعها.
وقد ساق زيدان، في الفقرة
السَّابقة، جملة طويلة أنهاها بعلامة التَّعجُّب؛ ها هي: "... وقُبيل
الإسلام، ادَّعى النُّبوَّة مُسيلمة بن حبيب الحنَفيّ، وهو المُسمَّى من بعد:
مُسيلمة الكذَّاب!".
لنضع هذه الجملة تحت
منظار التَّأمُّل، ولننظر في خَرقها، الذي ما كانت لتُصاب به لولا وضعه لعلامة
التَّعجُّب. فبدون هذه العلامة تظهر الجملة مضبوطة المعنى تمامًا؛ إنَّها تعني:
ادَّعى مُسيلمة النُّبوَّة، فلُقِّب بالكذَّاب. لكن مع وجود علامة التَّعجُّب
بنهايتها، فلا بُدَّ من أنَّها تحمل معنًى مخبوءًا، أو مُستنكرًا، يجب الانتباه
إليه، فما هو؟
لكن، مهما قَلَّب القارئ
الجملة في عقله، محاولًا فهم ما الذي تريد علامة التَّعجُّب الملغزة هذه الإشارة
إليه، فإنَّه لن يفهم شيئًا.
إذا كان معنى الجملة
واضحًا، فما الذي يستنكره زيدان ويريد لفت الانتباه إليه؟ أيستنكر وصف مُسيلمة
بالكذَّاب؟ لكنَّه، هو نفسه، من بدأ جملته هذه بأنَّ مُسيلمة (ادَّعى) النُّبوَّة،
فهل الادِّعاء إلَّا كذب؟ وهل المُدَّعي إلَّا كذَّاب؟
لكن بمواصلة قراءة الفكرة
يُحلّ اللغز، وذلك بالانتباه إلى أنَّ علامة التَّعجُّب قد وُضِعت في غير مكانها
الصَّحيح؛ لقد قُدِّمت كثيرًا عن موضعها المضبوط.
إذ لو استكملنا قراءة
الفقرة سنعلم أنَّ مكانها الذي وَدَّ يوسف زيدان لو يضعها فيه هو بعد :
"الرَّحمنُ رَبُّ العالمين". حيث انتهى كلامه عن مُسيلمة.
في هذا المكان فقط يكون
لعلامة التَّعجُّب معنى؛ لكن لأنَّ المعنى الذي تشير إليه خطير، وزيدان مُتردِّد
خائف، ولن يجرؤ على الإشارة بوضوح إلى أنَّه ما وضع علامة التَّعجُّب إلَّا ليقول
لقارئه: أنظر، المسلمون يقولون "الرَّحمن الرَّحيم"، ويقولون "ربّ
العالمين"، فمن قال هذا أوَّلًا؟ أمسيلمة، أم مُحمَّد؟ فإذا كان مسيلمة هو من
قاله أوَّلًا، وكان الرَّجل يدعو إلى توحيد الله أيضًا، فأيّهما الكذَّاب على
الحقيقة؟ مُسيلمة، أم مُحمَّد؟
إنَّ يوسف زيدان، بمثل
هذه النَّكزات التي يَدسّها دَسًّا في الخطاب الرَّئيس للكتاب، المتناول للَّاهوت
المَسيحيّ وعلاقته بعلم الكلام الإسلاميّ، يظُنّ أنَّه يثير أفكارًا مُهمَّة يجب
إثارتها؛ ولعلَّه يظن أنَّه أوَّل من يغعل ذلك؛ وقد يعتقد أنَّه ربما لو أثيرت
ينهدم الدِّين الإسلاميّ بطيئًا، الانهدام الذي هو بغية يوسف زيدان، وبغية أمثاله
من اللادينيِّين الكامنين تحت جلد الإسلام، وتحت جلد المَسيحيَّة، وتحت جلد أيِّ
دين، يُظهِرون اتّباعَه، فيما الحقيقة هي مناهضتهم له، والعمل على إسقاطه. ومثل
هؤلاء أخطر على الأديان مِمَّن يُلحدون علانية، أو يكفرون بوضوح.
هؤلاء هم من تُسمِّيهم
الدِّيانات السَّماويَّة: المنافقون.
فقضيَّة مُسيلمة أُغلِقت
منذ ظهورها بخسارته، رغم أنَّها أثيرت بقُوَّة في بدء الدَّعوة المُحمَّديَّة،
أثارها كُفَّار مكَّة لنفس السَّبب الذي أثاره زيدان في كتابه "اللاهوت
العربي": دعوة مُحمَّد، صلَّى الله عليه وسلَّم، قومه لعبادة الله الرَّحمن
الرَّحيم. فجابهوه بأنَّه يدعوهم إلى عبادة مُسيلمة رحمن اليمامة؛ ثُمَّ أثاروا في
وجهه، صلَّى الله عليه وسلَّم، قضية أخرى، دعواها أنَّ مُسيلمة رحمن اليمامة
يُعلِّمه القرآن. وكان بين اليمامة ومَكَّة تنافس كبير، وإن لم تظهر آثاره في نشوء
حروب بينهما، فكرهت مَكَّة ما ظَنَّته تقديمًا لليمامة ورحمانها!
لكن انقضت السُّنون،
وحقَّق مُحمَّد، صلَّى الله عليه وسلَّم، قاعدةً دِينيَّة أكبر اتِّساعًا من قاعدة
مُسيلمة الضَّيِّقة، قبل أن تدهمه الدَّعوة المُحمَّديَّة في عقر داره، ليفجع
بهزيمته الأولى.
ثُمَّ سرعان ما فجع
مُسيلمة بهزيمته الثَّانية؛ عندما حضر مع وفد بني حنيفة إلى المدينة، ومثل بين
يدَي الرَّسول، صلَّى الله عليه وسلَّم؛ وفيما كان الوفد يُقدِّم إسلامه، كان
مُسيلمة يشترط على النَّبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، أن يجعله شريكًا في
الرِّسالة قبل إعلان إسلامه.
وقد قوبل شرطه برفض قاطع.
ثُمَّ كان أن أرسل
مُسيلمة مكتوبًا إلى النَّبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، كَرَّر فيه نفس الطَّلب،
بالإضافة إلى طلبه قسمة الأرض بينهما نصفَين، فأصرَّ النَّبيُّ، صلَّى الله عليه
وسلَّم، على الرَّفض، ولقَّبه، في ذلك الكتاب، بمُسيلمة الكذَّاب.
إنَّهما واقعتان تكشفان
عن حقيقَتين مُتضادَّتين لرجلَين؛ أحدهما يساوم لتحقيق نصف مكسب، والآخر قابض على
مبدأه، لا يشُكّ في أنَّه رسولٌ إلى كُلِّ الأرض، لا إلى نصفها، فأيّ رجل يمكن أن
يكون رسولًا للبَشريَّة إن لم يكن هو الرَّجل الذي لا يساوم على المبادئ، وإن
وضعوا الشَّمس في يمينه، والقمر في شماله؟
إحدى الخصال الرَّئيسة
للمُفكِّر المُزيَّف هي: شغفه باستعراض قضايا أثبت الوقتُ أنَّها قضايا
خاسرة.
إنَّها عشر نقاط
مُتنوِّعة من السَّقطات التي تقصَّيت صحيحها، فأدركت زيفها؛ ولربما إذا كنت ملكت
وقتًا، وتوَفَّر لي جهدٌ، فتتبَّعت أصل جميع المعلومات التي أوردها زيدان في هذا
الكتاب، لوجدت معظمها أخطاء؛ ولو تتبَّعت ما حاول بناءه من أفكار لوجدت جميعها
أغاليط. مع ذلك فهي عشرة مثالب كافية لأن تجعل البحث غير دقيق، والباحث ليس
منهجيًّا ولا أمينًا.
لماذا كتب زيدان "اللاهوت
العَربيّ"؟
في الصَّدر من هذا الكتاب وضع يوسف زيدان فقرة
موحية بالمعاني العظيمة: "لم يُوضَع هذا الكتاب للقارئ الكسول،
ولا لأولئك الذين أدمنوا تلقِّي الإجابات الجاهزة عن الأسئلة المعتادة. وهو في
نهاية الأمر كتاب، قد لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر".
فهل جاء الكتاب فعلًا على مستوى القارئ النَّشيط،
المدمن لطرح الأسئلة المختلفة، وتلقِّي الإجابات الفارقة، أم انتهى إلى أن يكون
مُجرَّد كتاب من تلك النَوعيَّة التي لا تُقدِّم ولا تُؤخِّر؟
موضوع الكتاب، وزعم المُؤلِّف.
سبقت إشارتنا إلى أنَّ زيدان سطر
هذا الكتاب للفت انتباه القُرَّاء والباحثين إلى أنَّ سبب ظهور علم الكلام
(الإسلَاميّ) هو تَأثُّر المسلمين الأوائل، في أقطار الهلال الخصيب، بعلم اللاهوت
(المَسيحيّ)؛ أي أنَّ (علم الكلام) ما هو إلَّا امتداد لـ(علم اللاهوت)؛ على هذا
فإنَّه استحدث مُصطلحًا جديدًا لعلم الكلام، مسماه: اللاهوت العَربيّ!
هذا ما يقوله الرَّجل داخل الكتاب.
لكن ما يطرحه زيدان ليس إلَّا
زعم، باطله أكبر من حَقِّه، وفاسده أكثر من صحيحه؛ وسندلِّل على ذلك إذا تَمكَّنا
من الإجابة على هذا السُّؤال: هل كان ارتباط علم الكلام الإسلاميّ باللاهوت
المسيحيّ خافيًا عن القدماء، فصار لزيدان سبق اكتشافه بكتابه هذا؟
أورد الدُّكتور يوسف زيدان، في الفصل السَّادس
المعنون بـ: كلام الإسلام. ما نَصُّه: "... ولا يفوتنا هنا أيضًا
الإشارة إلى عبارة خطيرة قالها الإمام البُخاريّ، وقلَّما توَقَّف أمامها
الدَّارسون، مع أنَّها دالَّة بشكل كبير على صِحَّة ما قَرَّرناه سابقًا من امتداد
اللاهوت العربيّ المَسيحيّ في علم الكلام الإسلاميّ؛ يقول البُخاريُّ ما نَصّه:
فشت القَدريَّة حين فشا النَّصارى".
نفهم من العبارة أنَّ
البخاري أشار إلى الرَّابط بين القَدريَّة (وهم من فِرق الكلام) وبين النَّصارى
(وهم علماء اللاهوت المَسيحيّ)؛ أي أنَّ البخاري أشار إلى وجود هذا الرَّابط بين
هذَين العِلمَين قبل أن يشير إليه زيدان بألف ومائتَين سنة تقريبًا.
فإذا كان هناك من قَرَّر
الحقيقة قبل أن يُقرِّرها زيدان بمسافة من الزَّمان، فعلى أيّ أساس يظُنّ الرَّجل
أنَّه سبق غيره إلى إقرارها، أو حتَّى اكتشافها!
إنَّها مقررة، ومُكتَشفة،
حتَّى قبل أن يولد الجَدّ العاشر لزيدان.
وليت البُخاريّ فقط هو من
اكتشف، أو أكَّد على، وجود رابط بين الكَلامِيِّين الإسلَاميِّين واللاهوتيِّين
المَسيحيِّين، بل عشرات، إن لم يكن مئات، الباحثين المسلمين وغير المسلمين، مِمَّن
درسوا هذه المنطقة الفلسفيَّة اللصيقة بالدِّين، أكَّدوا صِحَّة ما انتبه إليه
البُخاريُّ.
وها هو
زيدان، نفسه، في الفصل الخاتم، المعنون بـ: "الخاتمة والفوائد
المُهمَّة"، يعرض ما توَصَّل إليه هاري ولفسون في كتابه "فلسفة
المُتكلِّمين"، في فصل منه عنوانه: المُؤثِّرات الأجنَبيَّة في علم الكلام.
وولفسون بَحَّاثة أمريكيٌّ، من أعلام المستشرقين في القرن العشرين، اهتَمّ بدراسة
بِنية الفلسفة الدِّينيَّة، وقد صدر كتابه المشار إليه في سبعينيَّات القرن
المنصرم؛ وهو كتاب ضخم، في جزئَين كبيرَين؛ وقد وصف زيدان هذا الكتاب
بالمُهمّ. قال زيدان: "... بعدما
أفاض ولفسون في الإشارة إلى آراء المستشرقين المتضاربة في مسألة الأثر المَسيحيّ
في علم الكلام، انتهى إلى تقرير الآتي: وهكذا، فإنَّ كُلَّ ما قُدِّم حتَّى الآن
دليلًا على التَّأثير المَسيحيِّ في هذه المشكلات الثَّلاث (الجبر والاختيار.
الصِّفات الإلهيَّة. خلق القرآن) هو أنَّ المسلمين كانوا على صلة بالمَسيحيَّة،
وأنَّ تأكيد الاختيار (الحُرِّيَّة الإنسَانيَّة) على نحو ما وُجِد في الإسلام عند
القَدريِّين، هو من أثر التَّعاليم المَسيحيَّة".
ها هي
فكرة الارتباط بين علم الكلام، واللاهوت المَسيحيّ، وحتَّى اللاهوت اليَهوديّ (كما
ورد في كتاب ولفسون) فكرة قديمة، مدروسة سابقًا، قبل وقتٍ طويلٍ من تَعرُّض زيدان
لها بكتابه ذي العنوان الفخم: "اللاهوت العَربيّ".
ثُمَّ
في نفس الفصل الخاتم من كتابه يقول يوسف زيدان: "... وقد كاد الباحث العَربيُّ
المعروف طَيِّب تيزيني يلامس حدود الرُّؤية التي طرحناها فيما سبق، في كتابه ذي
العنوان الطَّويل: (من اللاهوت إلى الفلسفة العربيَّة الوسيطة)؛ القسم الأول:
الفكر العَربيُّ قبل الفلسفة وحتَّى تخومها. غير أنَّه سرعان ما مَرَّ على الصِّلة
بين اللاهوت وعلم الكلام مرور الكرام، من دون أن يقف عند مفهوم (اللاهوت
العَربيّ)، الذي طرحناه هنا لأوَّل مَرَّة. ومن دون أن يتَريَّث عند البواكير
الأولى لعلم الكلام. فقد اكتفى في كتابه بسطور قليلة، أشار فيها من بعيد إلى
(الجهم، الجهنيّ، الجعد، غيلان)، ثُمَّ أسرع بعد ذلك إلى بحث تراث المعتزلة
والأشاعرة، من دون أن يقاوم إغواء الانجذاب إلى المذاهب الكلاميَّة المكتملة، فلم
يفطن بالتَّالي إلى أنَّ اللاهوت والكلام هما وجهان لعملة واحدة، هي العملة
العَقائديَّة المستعملة في منطقة الهلال الخصيب".
وقد جاء
انتقاء زيدان لهذه الفقرة مثالًا ساطعًا على صدق ما قاله السَّيِّد المسيح، عليه
السَّلام، مُستهجنًا من ينتبه إلى سقطات غيره ويغفل عن سقطته: "يا مُرائيّ،
أخرج أوَّلًا الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جَيِّدًا أن تخرج القذى من عين
أخيك".
فمعظم
ما عابه زيدان على مسلك تيزيني في بناء كتابه فعله هو، مثل نسخة تكاد تتطابق.
إذ
سرعان ما مَرَّ زيدان، في
كتابه "اللاهوت العَربيّ" على الصِّلة بين
"اللاهوت" و"علم الكلام" مرور الكرام. كما لم يتَريَّث
عند البواكير الأولى لعلم الكلام، فاكتفى في كتابه بسطور قليلة، أشار فيها من بعيد
إلى الجهم، والجهنيّ، والجعد، وغيلان. (هؤلاء رؤوس علم الكلام
الإسلاميّ).
لكن، والحَقُّ يقال،
إنَّه في الوقت الذي أسرع طَيِّب تيزيني إلى بحث تراث
المعتزلة والأشاعرة، من دون أن يقاوم إغواء الانجذاب إلى المذاهب الكلاميَّة
المكتملة، فلم يفطن بالتَّالي إلى أنَّ اللاهوت والكلام هما وجهان لعملة واحدة، هي
العملة العَقائديَّة المستعملة في منطقة الهلال الخصيب مَرَّ
يوسف زيدان مرور الكرام على تراث المعتزلة والأشاعرة، نظرًا لمَشغوليَّته البالغة
بوضع عنوان جديد لحالة ثَقافيَّة دينيَّة عَربيَّة قديمة، لها بالفعل عنوانها
المتعارف عليه قبل قرون، وهو العنوان الأنسب لفحواها. كان زيدان مُهتمًّا بنزع
لافتة: "علم الكلام الإسلامي"، ليضع مكانها لافتة: "اللاهوت
العَربيّ"، لا لشيء إلَّا ليدَّعي لنفسه تقديم جديدًا للتُّراث الفِكريّ
الإنسانيّ.
والحَقُّ: كم هو مؤلم
لرجل يُوصَف بالمُفكِّر، مع ذلك رصيده من الأفكار الجديدة يساوي صفر.
فإذا به، كأيّ فَهلويّ،
بدلًا من تجديد النَّشاط، ذهب يُجدِّد اليُفَط!
ولمزيد من الضَّوء على
ادِّعائية يوسف زيدان، ها نحن نعرض مُقتطفًا كتبه الرَّجل في مُقدِّمة
"اللاهوت العَربيّ"، يزعم فيه خروجه بحقيقة مُهمِّة، ثُمَّ تقرأ فلا نجد
أيّ حقائق مُهمَّة جديدة، فقط زيدان يمارس هوايته البليدة في إعادة الكلام،
وزيادته، وتكراره، و(التَّطبيل في المِتطبِّل). اقرأ: "نخرج من ذلك بحقيقة
مُهمَّة، هي أنَّ التَّفاعل بين الدِّيانات الثَّلاث لم يتقتصر على التَّعاقب
الزَّمنيّ بين اليَهوديَّة والمَسيحيَّة والإسلام، وإنَّما تعدَّى ذلك إلى تفاعلات
عميقة في الأصل العميق لكُلٍّ منهم، وإلى عمليَّات جَدليَّة مُؤكِّدة أنَّ جوهر
الدِّيانات الثَّلاث، في واقع الأمر، هو جوهر واحد، وإن اختلفت تَجلِّيَّاته بحسب
الزَّمان والمكان".
وهذا، الذي يحلو لزيدان
أن يورده باعتباره حقيقة مُهمَّة خرج بها للتَّوّ، هو مفهوم قديم قدم الإسلام
نفسه.
فمُحمَّد، نَبيُّ
الإسلام، صلَّى الله عليه وسلَّم، لم يُقدِّم الاسلام إلَّا باعتباره حلقة
تَكميليَّة لما جاء قبله من أديان، وإن كانت الحلقة الخاتمة. وقد قال مُحمَّد،
صلوات الله وسلامه عليه، جملة لو مَرَّت على بال يوسف زيدان، وهو يكتب فقرته هذه،
لربما تراجع عن كتابتها، إذا كان يكتب إخلاصًا للحقيقة، لا إخلاصًا لادّعاءات يصنع
بها من نفسه (مُفكِّرا!).
قال النَّبيُّ مُحمَّد:
"الإنبياء أخوة لعِلَّات، دينهم واحد، وأُمّهاتهم شتَّى".
وقال المسيح، من قبل
مُحمَّد، عليهما الصَّلاة والسَّلام،، فيما يربط دعوته المَسيحيَّة باليهوديَّة
الأقدم: "ما جئت لأهدم النَّاموس، بل لأكمله". وغير مقولة المسيح، عليه
السَّلام، فإنَّ الإنجيل دائمًا ما يضُمّ بين دَفَّتيه التَّوراة كاملة.
فهل هناك أوضح من كُلَّ
ما سقناه لنُبيِّن أنَّ ما يدَّعيه يوسف زيدان من استخلاص حقيقة مهمة، ليس غير
حقيقة قديمة قدم ظهور المَسيحيَّة؟
تقييم كتاب "اللاهوت
العَربيّ".
لم يفعل زيدان بكتابه
"اللاهوت العَربيّ"، وهو كتاب مُتوسِّط القطع، يقع في عدد صفحات لا
يتجاوز المائتي وعشرين صفحة، رغم أنَّه كتاب فِكريٌّ تناول مناحي عديدة من اللاهوت
المسيحي والكلام الإسلامي، أجدر به أن يطول لو كان زيدان أمعن الدِّراسة في كُلِّ
منحى منه، ولو اهتَمّ بالتَّأصيل ليافطته الجديدة.
أقول: لم يفعل زيدان، في
"اللاهوت العَربيّ"، غير التَّأكيد على أن "أحمد" يمكن أن
ندعوه بـ"الحاجّ" أحمد أيضًا!
على جميع ما سبق، فإنَّ كتاب "اللاهوت
العَربيّ" لم يُقدِّم جديدًا على مستوى الفكر الفَلسفيّ اللصيق بالأديان،
موضوع الكتاب. فلا رؤية مستحدثة في شأن (اللاهوت المَسيحيّ)، أو في شأن (علم
الكلام الإسلاميّ)، أو في شأن (الرَّوابط بينهما).
إنَّه مُؤلَّف شَيِّق، فقط، استفاد من الحِسّ
الأدَبيّ لدى يوسف زيدان، فجاء سرده سلسًا مُمتعًا، حتَّى وهو يتناول موضوعًا
ثقيلًا ثقل الرَّابطة بين اللاهوت وعلم الكلام.
فإذا كان الحِسُّ الفِكريّ في "اللاهوت
العَربيّ" أضعف بكثير مِمَّا يُؤمَل من شخص منسوب إلى "التَّفكير"،
في حين جاء فيه الحَسُّ الأدَبيُّ أقوى وأوضح، فالكتاب إذن يمكن تصنيفه بأنَّه
تَاريخيٌّ أدَبيٌّ، ما يمكن معه القول بأنَّ يوسف زيدان لم يكن في هذا الكتاب غير
ناقل تَاريخيّ (ليس موثوقًا تمامًا في أمانة نقله)، وكاتبٌ يستطيع السَّرد
والصِّياغة، لكنَّه أبعد كثيرًا من أن يكون مُفكرًّا.
هو كتاب، مهما قرئ، (لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر). مع
ذلك قد يكون مفيدًا إذا اعتبره القارئ فهرسًا، يأخذ منه رؤوس المواضيع، ثُمَّ يبحث
عن كتبها الأصول، تلك الأوثق بحثًا، والأعمق فكرًا، والأثمن
غايةً.
2
رحيق الكتب
"الإسلام وأصول الحكم".
كانت الخلافة العُثمانيَّة قد
تعرَّضت لضربات مُوجِعة في الحرب العالميَّة الأولى أفقدتها الكثير من ولاياتها
حول حوض البحر الأبيض المُتوسِّط، بل أفقدتها أيضًا أجزاءً من أرضها الأصيلة
(اللحم الحَيّ؛ كما يُقال في مصر)؛ ولم يكن بمقدور الخلافة العُثمانيَّة سوى
تَلقِّي الضَّربات في نفس الوقت التَّفاوض مع الأعداء لمحاولة وقف النَّزيف.
كان مصطفى كمال أتاتورك قائدًا
عَسكريًّا تلقَّى تعليمه في مدارس مُتقدِّمة ذات سمت عِلميٍّ، لا دينيٍّ، ما
هيَّأه أن يكون فيما بعد علمانيًّا.
رأى أتاتورك ذِلَّة تركيا،
ورأى أنَّ السَّبب هو الحكم بنظام الخلافة، وأنَّ ذلك النِّظام العتيق يُكبِّل
تركيا ويمنعها من التَّقدُّم في وقت يتقَدَّم الجيران الأوروبيُّون (الأخوة غير
الأشقَّاء، الأعداء)، ما يُشكِّل خطرًا كبيرًا على الوطن؛ وبعد انتصاره في حروب
الاستقلال، كقائد عَسكريّ، ارتفعت أسهمه، ليتَصدَّر صَفّ صُنَّاع القرار
السِّياسيّ.
لم يكن أتاتورك قائدًا
عَسكريًّا فذًّا وفقط، بل كان مُفكِّرًا سِياسيًّا أيضًا، ففهم أنَّ تركيا تحتاج
إلى قفزة قوية، وواسعة، للخروج من مستنقع التَّخلُّف الذي علقت به.
وتمثَّلت القفزة في نبذ
الخلافة، باعتباره نظام حكم عتيق، نخر فيه السُّوس حتَّى تداعي من عرين أسد هصور
إلى بيتٍ أوهن من بيت عنكبوت.
هكذا
أزيحت الخلافة
عن عرشها، بمفهومها الإسلاميّ، سنة 1924م؛
بعد ألف سنة من بزوغها الأوَّل بأبي بكر الصدِّيق، رضي الله عنه.
سقوط
مبنى سياسيٍّ إسلاميٍّ عمره ألف سنة كان له من التَّداعيات النَّفسيَّة
والمَعنويَّة والماديَّة ما لتبعات الهرم الأكبر إن تداعى لسبب ما.. تزلزلت نفوس
المُسلمين، وشعر كثيرٌ منهم بأنَّهم يبيتون في العراء.
في
ذلك الوقت العصيب اشرأبَّت أعناق بعض ملوك وسلاطين تلك الولايات العثمانيَّة
المنفرطة عن تركيا لخطف الخلافة، التي أُلقِيَ بها تَخلُّصا منها.
كان
أتاتورك يسعى إلى إنقاذ تركيا من التَّخلُّف، والدَّفع بها للِّحاق بركب
التَّقدُّم؛ إنَّها مُهمَّة سامية تشغل الحاكم عن مظاهر الحكم الكاذبة، كما تشغله
عن التماس الطُّرق التي تُؤدِّي فقط إلى تمكينه في الحكم.
رأى
أتاتورك نفسه وسيلة لتركيا، لا غاية تركيا. وهو ما قد يُفسِّر حُبّ الأتراك له على
مختلف ميولهم الأيديولوجيَّة.
كان
الرَّجل مُخلِصًا لفكرة عظيمة، لا لنفسه (العظيمة!).
أمَّا
ملوك وأمراء الطَّوائف، أو الولايات العَربيَّة التي انفرط عقدها بانفراط عقد
الخلافة العُثمانيَّة، فسرعان ما ركضوا، كُلٌّ منهم يحاول تَلقُّف (الخلافة) قبل
الآخر.
فكُلٌّ
منهم يحتاجها باعتبارها وسيلة مُقدَّسة للهيمنة على نفوس المسلمين، فكيف الحال
والمسلمين مُزلزَلين، يعانون العراء الرُّوحيّ جرَّاء فقدها!
كان
فؤاد الأوَّل من
هؤلاء الطَّامحين إلى تنصيب نفسه خليفة على المسلمين؛ لِمَ لا وهو ملك مصر،
وسَيِّد النُّوبة وكردفان ودارفور؟
وكان رأس الأزهر، وقتها،
الشَّيخ الظَّواهري، من أشَدّ المُؤيِّدين لتحقيق أمل الملك فؤاد الأوَّل، وسعى في
ذلك سعيًا لحوحًا، فنَظَّم مؤتمرًا لتأييد تنصيب فؤاد الأوَّل خليفة؛ لكن سعي شيخ
الأزهر قوبل بالرَّفض من جهات عِدَّة، منها الأزهريِّين أنفسهم، وكانت حُجَّتهم
عدم صلاحية مصر مركزًا للخلافة وهي رهينة الاحتلال الإنجليزيّ.
أمَّا الشَّعب المِصريّ فلم ير
من الخلافة، على طول تاريخه معها، شيئًا يسرّه، بل شرب المُرّ في ظلِّها، فلم يغضب
لسقوطها، ولم يُؤيِّد رغبة فؤاد الأوَّل، ولا ساند سعي الشَّيخ الظَّواهري لتحقيق
رغبته.
في هذا الهرج العارم ظهر
الشَّيخ علي عبدالرَّازق على الخريطة، وكان قاضيًا وشيخًا أزهريًّا ـ وهنا يجب
ألَّا نغفل عن ذكر حقيقة أخرى تُوضِّح تكوينه الفكريّ في أثناء إقدامه على ارتكاب
ذلك التَّفجير الثَّقافي الكبير ـ لقد كان الشَّيخ أيضًا سِياسيًّا، لا يمارس السِّياسة
على سبيل الهواية، كما يمارسها أيُّ مواطن مِصريّ، بل كان سِياسيًّا تنظيميًّا
عضوًا في حزب اسمه: الأحرار الدُّستوريِّين؛ وكان حزبًا ذي رؤية علمانيَّة،
مُؤيِّدة لإسقاط الخلافة!
ظهر الشَّيخ علي
عبدالرَّازق في مشهد تَوعويٍّ فارق؛ حيث تقَدَّم مُصوِّبًا فوَّهة كُتيِّب ألَّفه،
بعنوان: "الإسلام وأصول الحكم"، إلى رأس الخلافة المتداعية، وأطلق عليه
رصاصة الرَّحمة، لتلفظ فكرة الخلافة أنفاسها الأخيرة، ولتنتهي آمال الطَّامحين إلى
تزيين عروشهم بها، والرَّاغبين فيها لمزيد من الهيمنة، ولتتحوَّل بمرور الوقت إلى
ذكرى حالمة لمن يستعيد التَّاريخ المجيد للخلافة الإسلاميَّة، وقد انتظمت دولًا
وممالك، من مختلف أنحاء العالم، في تاج سيادتها؛ أو إلى حنين يداعب المُتديِّنين الأصوليِّين،
الذين يفهمون أنَّ الإسلام ضعف بذهاب الخلافة، ولن يقوى إلَّا بعودتها.
انطلقت الرُّصاصة، فتَفجَّر
الصَّخب.
مقالات وحروب ثقافيَّة
وفكريَّة ومحاكمات أزهريَّة لعلي عبدالرَّازق.
ومع أنَّ الرّصاصة أُطلِقت قبل
مائة عام تقريبًا ـ سنة 1925م ـ إلَّا أنَّ دويّها لا يزال يُسمع،
مهما خفت، مع كُلّ حركة تنويريَّة بازغة، أو حتَّى (استنواريَّة) كاذبة.
حول
هذا الكُتيِّب الأشهر: "الإسلام وأصول الحكم"؛ دارت إحدى حلقات برنامج
"رحيق الكتب"، بتاريخ 7 مايو 2018م؛
وكان يوسف زيدان الضَّيف، والإعلامي عمرو أديب المضيف؛ وقد اخترنا هذه الحلقة،
بالتَّركيز عليها، لأنَّها الحلقة الكاشفة، من بين جميع حلقات زيدان في هذا
البرنامج، عن القدرات الحقيقيَّة له كرُجل يُوصَف بالـ"مُفكِّر!".
وسنبدأ الآن في تناول سقطاته
ومغالطاته في تلك الحلقة، واحدة تلو أخرى.
1 ـ في معرض كلامه عن احتماليَّة توَقُّف الحجٌ بسبب الإجراءات
الاحترازيَّة لمواجهة فيروس كورونا، قال: "لأجل أن يكون عند النَّاس علم بهذا
الأمر فلا ينزعجوا، هناك أعوام كثيرة من تاريخنا توَقَّف فيها الحجّ، ربما توقَّف
لعشرين أو ثلاثين سنة متوالية، وذلك بسبب العربان الذين كانوا يعتدون على قوافل
الحُجَّاج، وكان الخليفة يعاني من قِلَّة القُوَّات اللازمة لحماية القوافل؛
تكرَّر هذا مرَّات كثيرة".
وها هو نَصّ ما قاله
بالعاميَّة المِصريَّة: "وعلى فكرة، عشان النَّاس تبقى تعرف
برضه وما تتخَضِّش، فيه سنوات كتير أوي في تاريخنا، بالعشرين والتَّلاتين سنة، ما
كانش في حج. يعني العربان كانوا بيعتدوا على القوافل، والخليفة بيبقى ما عندوش
قدرة إنَّه يحمي القوافل دي. في مرَّات كتير يعني متكرَّرة، وأحيانًا امتدِّت
لعشرين وتلاتين سنة".
أقول: ما قاله زيدان خطأ لا
يليق بتاريخيٍّ مُتخصِّص دراسات وثائق ومخطوطات السُّقوط فيه؛ إذ لم يحدث، ولا
مَرَّة واحدة، في تاريخ الإسلام أن توَقَّف الحَجُّ لعشرين أو ثلاثين سنة متوالية،
فضلًا عن حدوث ذلك التَّوقُّف الطَّويل مرَّات كثيرة! فأطول مُدَّة توَقَّف فيها
الحَجُّ كانت أيَّام ثورة القرامطة، واعتدائهم على الكعبة، وخطف الحجر الأسود،
وقُدِّرت، على أقصى تقدير، بعشر سنوات.
مع إقرارنا بأنَّ الحَجَّ قد
توقف فعلًا مرَّات عديدة، لكن حدث هذا في سنوات مُتفرِّقات، لأسباب تفَرَّقت بين
الأوبئة، والسُّيول، وهجمات العربان
2 ـ قال زيدان متناولًا موضوع الحلقة،
وهو كتاب "الإسلام وأصول الحكم": خرج علي عبدالرَّازق بهذا
الكتاب وأنكر اعتبار الخلافة أصلًا من أصول الحكم (الإسلاميّ). فقال عمرو أديب
لمزيد من توضيح فكرة الكتاب: ليس هناك شيء اسمه خليفة في الإسلام. فقال زيدان: قال
لهم (يقصد على عبدالرازق قال لمعاصريه) الخلافة ليست أصلًا من أصول الإسلام. اسمح
لي، قلت لي قبل أن ندخل (الأستوديو) إنَّ الشيخ عليّ عبدالرازق، في هذا الكتاب،
أراد فصل الدِّين عن الدَّولة. لأ. هو لم يقصد ذلك. لم يقل في هذا الكتاب إنَّني
أنادي بفصل الدِّين عن الدَّولة. قال عمرو أديب: لم يقل فصلًا، لكنَّه قال الإسلام
دين وليس دولة. فقال زيدان: هو قال الدِّين روحانيّ، طبيعته روحانيَّة. قال عمرو:
نحن الآن لدينا الإسلام دين ودولة! فقال زيدان: نحن من! هذا الكلام قيل في هذه
الأيَّام. قال عمرو: نعم، أفهم هذا، لكن الرجل (الشَّيخ عليّ عبدالرَّازق) خرج
ليقول لهم: الإسلام دينٌ. ونقطة. فقال زيدان مُؤكِّدًا: فقط.
وها هي الحواريَّة كما
جرت على الشَّاشة بالعاميَّة المَصريَّة:
زيدان: طلع علي
عبدالرَّازق في هذا الكتاب وأنكر الخلافة باعتبارها أصلًا من أصول الحكم / عمرو: ما
فيش حاجة اسمها خليفة في الإسلام / زيدان: قاللهم مش أصل، الإسلام ليه أصول. وهو
اسمحلي في تعريفك، قبل ما ندخل، انت قلت إنه هو فصل الدِّين عن الدَّولة؛ لأ. هو
ما كانش يقصد كده. ما قالش كده خالص في الكتاب. ما قالش أنادي بفصل الدِّين عن
الدَّولة / عمرو: ما قالش فصل، لكن قال الإسلام دين مش دولة. طيب! / زيدان:
الرَّاجل قال الدِّين روحاني طبيعته روحانيَّة / عمرو: احنا دلوقتي عندنا الإسلام
دين ودولة / زيدان: عندنا مين! / عمرو: هي المنحوتة / زيدان: دا اليومين دول /
عمرو: أيوه أنا فاهم. هو الرَّاجل ده طالع يقولّهم في الكتاب ده: الإسلام ديننن.
ونقطة / زيدان: باااااس.
أقول: في أوَّل
الحواريَّة خلط زيدان بين أصول الحكم وأصول الإسلام، وشتَّان الفارق بينهما،
لأنَّه بنفس الثِّقة التي يمكننا بها الجزم بأنَّ الخلافة أصل "الحكم"
في الإسلام، نجزم بأنَّ الخلافة ليست أصلًا من أصول "الإسلام".
فأصول الإسلام، التي هي
بالأساس أصول الإيمان، ستَّة معروفة، هي: الإيمان بكُلٍّ من: الله، وملائكته،
وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. وهي ليست قواعده الخمسة المعروفة:
الشَّهادتين، والصَّلاة، والزَّكاة، والحَجّ لمن استطاع، وصوم رمضان.
ثُمَّ أكَّد زيدان على
أنَّ الشَّيخ علي عبدالرَّازق لم يكن يقصد بكتابه فصل الدِّين عن الدَّولة؛
والحقيقة هي أنَّ الشَّيخ قال في كُتيِّبه كُلَّ ما من شأنه المطالبة بفصل الدِّين
عن الدَّولة، لكنَّه لم يطالب بذلك صراحة، وهذه حصافة، فكيف له، وهو يُصوِّب
الرَّصاصة لرأس أهمّ معلم إسلاميّ ظاهر، أن يُصوِّب في نفس الوقت على (إسلاميَّة
الدَّولة)!
لكن لو كان زيدان قرأ
الكتاب جَيِّدًا لانتبه إلى سطرين من المُقدِّمة التي وضعها الشَّيخ لكُتيِّبه،
قال فيهما: ".. بل قد أكون اكتفيت أحيانًا بإشارات ربما خفيت على صنف من
القارئين جهتها، وبتلويحات قد تفوتهم دلالتها، وبكنايات توشك أن تصير عليهم
ألغازًا، وبمجاز ربما حسبوه حقيقة، وبحقيقة ربما حسبوها مجازاً".
إذن؛ كان عمرو أديب أذكى،
وأنبه، كثيرًا من (المُفكِّر) يوسف زيدان، لالتقاطه المقصد الرَّئيس من كتاب
"الإسلام وأصول الحكم"؛ وهو: المطالبة بفصل الدِّين عن الدَّولة
(العلمانيَّة). فيما كل ما فهمه زيدان أنَّ الشَّيخ علي عبدالرازق يريد أن يقول
(لهم) إنَّ الدِّين روحانيٌّ، وطبيعته روحانيَّة! فيما تُثبِت الوقائع،
والتَّبعات، التي ترادفت فور نشر ذلك الكتيب، أنَّ موضوعه أخطر بكثير من مُجرَّد
الرَّغبة في وصف الدِّين بأنَّه ذو طبيعة روحانيَّة.
ثُمَّ يرتكب زيدان خطأ
آخر جسيمًا، عندما اعتبر أنَّ النَّاس (في وقتنا المعاصر فقط) بدأوا يفهمون أنَّ
الإسلام دين ودولة. والصَّحيح أنَّ فهم النَّاس للإسلام، باعتباره دين ودولة، هو
فهم قديم قدم الخلافة (أي قدم الإسلام نفسه تقريبًا)، وقدم الصِّراع عليها، وقدم
الفِرَق التي تشعَّبت من الإسلام بسبب ذلك الصراع، حتَّى أنَّ الشَّيعة تعتبر
الإمامة (كصورة حكم موازية للخلافة) أصلًا من أصول الإسلام، ما يعني أنَّها
بالضَّرورة أصل من أصول الإيمان أيضًا.
بل هو فهم زيدان، نفسه،
لقدم العلاقة بين الدِّين والدَّولة في الإسلام، الذي كان واضحًا تمامًا في كتابه
"اللاهوت العَربيّ".
وقد آن لنا تذَكُّر تلك
الفقرة، من كتابه هذا، والتي حرصتُ على التَّنويه بضرورة عدم نسيانها؛ الخاصَّة
بمقولته المغلوطة عن أنَّه لولا الدَّولة ما كان الدِّين.
لقد نسي زيدان، أمام
الكاميرات،، تقريره الكِتابيّ. وإذا نسي المُفكِّر تقريرًا يُمثِّل فكرةً أصيلةً
لديه فهو ليس مُفكِّرًا على الحقيقة، وإنَّما تاجر جوَّال ببضاعة مختلفة، يُخرج
لكُلّ زبون ما يريده، سعيًا للتَّربُّح.
3 ـ وصف زيدانُ الشَّيخَ علي عبدالرَّازق
بأنَّه غير عميق، ومُجرَّد مجتهد؛ ثُمَّ قال: لا أعتقد أنَّه كان مُقدِّرًا لما سيحدث
من تبعات.
أقول: الحقُّ أنَّه ليس
بوسع من كتب "اللاهوت العَربيّ" الحكم على من كتب "الإسلام وأصول
الحكم"! وقد قرأت الكتابين، ولمست الفرق بين قُوَّة الطَّرح، وجرأته، مع
دِقَّته، وصِحَّة استدلالاته، بالإضافة إلى تأثيره العاصف، بين "لاهوت"
زيدان و"أصول" عبدالرَّازق؛ وبمقارنة يوسف زيدان مع عليّ عبدالرَّازق،
فالدُّكتور ليس غير تلميذ بليد في مدرسة الشَّيخ التَّنويريَّة.
كما يمكننا العودة لما
اقتطفناه من مُقدِّمة الشَّيخ عليّ عبدالرَّازق، التي كتبها لكتابه "الإسلام
وأصول الحكم"، في أوَّل الفصل السَّابق، لندرك أنَّ الشَّيخ كان مُقدِّرًا
تمامًا لما سيحدث من تبعات.
4 ـ الكلام في موضوع كتاب "الإسلام
وأصول الحكم" أدَّى إلى الحديث عن وقعة خالد بن الوليد بمالك بن نويرة، وكان
الخليفة أبو بكر الصِّدِّيق بعث خالدًا إليه لقتاله، بسبب رفضه دفع الزَّكاة؛ فقال
زيدان: فحاربه خالد، وعمل به أعمالًا لا نُحبّ أن نقولها للنَّاس ليلًا، وثالثة
الأثافيّ، وإلخ. ليبحث عنها النَّاسُ الشَّغوفون بالتَّعرُّف على البشاعة في شبكة
الإنترنت، وقتله للأسرى. ثُمَّ ألزم النَّاس بالزَّكاة.
وها هو نَصّ ما قاله
زيدان بالعامِّيَّة المِصريَّة: فخالد حاربه، وعمل فيه العمايل اللي مانحبش نقولها
للنَّاس بالليل دي. وثالثة الأثافي، وبتاع. يبقوا يدوروا عليها في النِّت النَّاس
اللي غاوية بشاعة يعني. وقتل الأسرى. وألزم النَّاس بدفع الزَّكاة.
أقول: هذا همز ولمز لا
يليقان بـ(مُفكِّر!) يدرك أنَّ النَّهج العِلميّ القويم يستلزم النَّظر للوقائع
بحياديَّة تامَّة، وتفسيرها في ظِلِّ اعتبارات عديدة، لها ارتباط وثيق بالدَّوافع
المُنتِجة للوقائع تحت البحث والدِّراسة.
وأنَّ المُفكِّر
(المطبوع) غير مَعنيٍّ، بعد نهاية الدِّراسة والتَّحليل، بالمحاكمة، أو الاستهجان،
أو الازدراء، بقدر ما هو مَعنيٌّ بتدوين الخلاصة الفكريَّة، بأسلوب حكيم ورصين.
5 ـ واصل زيدان كلامه إلى أن قال:
فعليّ عبدالرَّازق
قال: إنَّ هذه الحرب (يقصد: حرب مانعي الزَّكاة) ليست من أجل أصلٍ من أصول
الدِّين، إنَّها حربٌ من أجل أمور سياسيَّة.. أنا أراها، من زاويتي، مسألة
اقتصاديَّة بحتة. هو (يقصد: أبا بكر الصِّدِّيق) يريد تمويل الجيوش.
فقال عمرو أديب محاولًا
تقريب الصُّورة للمشاهدين بشَكلٍ عصريٍّ: يعني الممتنعين عن دفع الزَّكاة مثل من
يمتنعون عن دفع الضَّرائب.
فأكَّد زيدان على صِحَّة
ما قاله عمرو أديب، واستطرد يقول بحماس شديد: فبالتَّالي (المُتهرِّب) يُحاكم
بالقانون، ليس للدِّين شأن هنا، لكن بعض النَّاس من المرتزقة باسم الدِّين (يقصد
الفقهاء) حاليًا، يُسمُّونها حروب الرِّدة، بمعنى أنَّ (مانعي الزَّكاة) ارتدُّوا
عن الدِّين، ومن ارتدَّ عن الدِّين يُقتَل.
وها هي المحاورة
بالعاميَّة المِصريَّة:
يقول زيدان: فعلي
عبدالرزاق قال: طيب دي حرب مش على أصل من أصول الدِّين؛ دي ترتيبات سياسيَّة
مُعيَّنة. أنا شايفها، من زاويتي أنا، إنَّها مسألة اقتصاديَّة بحتة. هو عايز
يموِّل الجيوش / عمرو: يعني زيّ اللي بيمتنع عن دفع الضَّرايب / زيدان: فبالتَّالي
يُحاكم بالقانون، مالوش دعوة الدِّين هنا. بعض النَّاس المرتزقة باسم الدِّين
حاليًا، بيسمُّوها إيه؟ حروب الرِّدة. بمعنى إنُّهم هُمَّا ارتدُّوا عن الدِّين،
واللي ارتد عن الدِّين يُقتل.
أقول: في هذه النُّقطة
الخامسة ارتكب زيدان مزيدًا من الأخطاء البلهاء؛ ولا نعرف حَقًّا كيف ارتكبها
الرَّجل بهذا الغباء المفرط! وكيف لم يهتمّ، وهو يرتكبها، بأنَّه يهدم الصُّورة
الذِّهنيَّة له كمُفكِّر! فالرَّجل (المُفكِّر!) يرى حروب الرِّدة حروبًا
اقتصاديَّة، الهدف الأوَّل منها تمويل الجيش، لأنَّها حروب لم تقم على أصلٍ من
أصول الدِّين.
والحقيقة أنَّ (الزَّكاة)
ليست (الخلافة).
فالخلافة ليست من أصول
الإسلام ظاهرًا أو باطنًا، لكن الزَّكاة أصلٌ رئيسٌ منها، وأحد أركان الأسلام
الخمسة التي بُنِيَ عليها.
ويقضي الفقه الإسلاميُّ
بإنَّ من يهدم ركنًا من أركان الدِّين فقد ارتَدّ، ويُحارَب.
على هذا الأساس، الواضح
للعيان، فإنَّ إطلاق مُسمَّى حروب الرِّدَّة على حروب مانعي الزَّكاة هو إطلاقٌ في
مَحلِّه تمامًا. ولا علاقة له أبدًا بتصوُّرات زيدان عن النِّيَّة الخبيثة
المُبَّيَّتة، عند فقهاء الإسلام، لتسميتها بذلك من أجل الاسترزاق!
هذا غير شروده عن الفارق
الجَوهريّ بين "الزَّكاة في الإسلام" و"الضَّرائب في
المواطنة".
فالمُسلم مواطن، ولو لم
يدفع الزَّكاة، والمسلم مُرتدّ لو لم يدفع الزَّكاة جحودًا، وإن دفع الضَّرائب
راضيًا.
"الزكاة" هي
أحد أركان الإسلام الخمسة، لا "الضَّرائب".
6 ـ وتكلَّم زيدان، في تلك الحلقة، عمَّا
أسماه: التَّعارض بين النَّصّ القُرآنيّ والحديث الشَّريف؛ فقال: القواعد في متون
الحديث وعلم الدِّراية تقول: إذا تعارض حديث مع آية لا يُعمل بالحديث.
وقد ضرب مثلا على عدم
اتِّفاق النَّص القرآنيّ مع الحديث، في حالات، بحديث: "من مات وليس في عنقه
بَيعة فقد مات مِيتة جاهليَّة". فقال: مثل هذا (الكلام!) لم يأت في القرآن.
أقول: لا نعرف إلى أيِّ
قاعدة فِقهيَّة استند زيدان ليتوصَّل إلى هذا الرَّأي، إذا كان علماء الإسلام
قالوا: قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى إنْ هُوَ إلَّا
وَحْيٌ يُوحَى}. فكُلّ ما بَلَّغه الرَّسول وحيٌ، سواء كان وحيًا بأمور الشَّريعة،
أو كان قرآنًا. فإذا تعارض نَصَّان ثابتان، سواء كانا آيتَين، أو حديثَين، أو آية
وحديث؛ يجمع بينهما؛ فإن لم يُمكن يُنظَر النَّاسخ من المنسوخ، فإن لم يُعرَف
المُتقدِّم من المُتأخِّر يُرجَّح بينهما؛ فإذا لم يُمكن التَّرجيح يُتوقَّف.
فأين في قولهم ما ادَّعاه
زيدان من ترك الحديث إذا عارض الآية؟!
لكنَّها مغالطات زيدان.
7 ـ في معرض كلام زيدان قام بذكر السُّلطان محمود بن
سبكتكين، فقال
مخاطبًا عمرو أديب بنبرة ساخرة:
لا داعي لأن أصف لك محمود
بن سبكتكين، لقد قتل مليونًا ونصف مليون هِنديّ، هذا ما دوَّنه هو في تقاريره،
ويتفاخر به، ويتفاخر بحرق المكتبات، وقتل المعتزلة، وقتل الشِّيعة. لقد قتل كُلَّ
من يختلف معه، ونهب النَّاس. واستطرد: لم يكن للهند مَلِكًا قويًّا يُوحِّدها،
فكان هو (يقصد ابن سبكتكين) يتفَسَّح بغزوها، فقد كانت قاعدة ملكه في غزنة،
أفغانستان حاليًا، فكان كُلّ سنة يخرج إلى الهند لثلاث، أو أربعة، أشهر؛ كان يحتاج
ذهب المعابد هناك.
وها هو نَصّ حديث زيدان
بالعاميَّة المِصريَّة: محمود بن سبكتكين ده ما فيش داعي أوصفهولك، مليون ونص هندي
قتلهم. ده في التَّقارير بتاعته وبيتفاخر بكده، بإنُّه حرق المكتبات، وقتل
المعتزلة وقتل الشيعة، أي حد يختلف، ونهب النَّاس.. الهند ما كانش لها ملك مُوحِّد
قوي، وهو كان واخدها فسحة، هو كانت قاعدة ملكه في غزنة، في أفغانستان حاليًا، وكل
سنة يطلع تلات اربع شهور، بيبقى عايز الدَّهب اللي في المعابد.
أقول: قبل الرَّد على ما
جاء في هذه النُّقطة السَّابعة، لا بُدّ من تقديم نبذة تَعريفيَّة، مقتضبة جِدًّا،
عن السُّلطان محمود.
هو محمود بن سبكتكين،
الشَّهير بالسُّلطان محمود الغزنويّ. حكم الدَّولة الغزنويَّة لمدة 32 سنة؛ بعد أن انتزع الحكم من أخيه
الضَّعيف في أواخر القرن الرَّابع الهِجريّ، وخلال فترة زمنيَّة قليلة، من بداية
حكمه، ارتفع شأن الدَّولة الغزنويَّة، وذلك لهِمَّته، وشجاعته، وحسن تدبيره؛ وقد
غزا الهند، وواجه جيوشها، في سبع عشرة موقعة، انتصر فيها جميعًا، فلُقِّب بفاتح
الهند. ووَسَّع حدود مملكته حتَّى امتَدَّت إلى بخارى، وسمرقند، وأفغانستان، وبلاد
ما وراء النَّهر، وسجستان، وخراسان، وطبرستان، وكشمير، وجزء كبير من الولايات
الشَّماليَّة الغربيَّة من الهند. وكانت له ألقاب عديدة، منها: يمين الدَّولة،
والغازي، وفاتح الهند، وبطل الإسلام، ومُحطِّم الأصنام.
وقيل إنَّ السُّلطان
محمود الغرنويّ لم يكن رجل حرب فقط، بل كان أيضًا نصيرًا كبيرًا للأدب والفنون، إذ
كان يعيش في دولته، وفي عهده، كثير من العلماء والشُّعراء الكبار منهم على سبيل
المثال: ابن سينا، وأبو الرَّيحان البيرونيّ، وأبو الفتح البستي، والفردوسيّ،
والبَيهقيّ، والفرخَي.
كما اشتُهر عنه أنَّه كان
دَيِّنًا، خَيِّرًا، عاقلًا، صاحب علم ومعرفة؛ يُحسن إلى رَعيَّته، ويغزو ويجاهد
كثيرًا.
انتهت النُّبذة
التَّعريفيَّة بالبطل المسلم، الذي لا يطيقه زيدان، وهو شعوره المعتاد تجاه جميع
أبطال الإسلام، بِدءًا من خالد بن الوليد وحتَّى النَّاصر صلاح الدِّين الأيوبيّ.
وأقول: الحمد لله أن
اعتمد يوسف زيدان هذه المرَّة على ما أسماه (التَّقارير الخاصَّة للمُدَّعى عليه)،
وإن كنت لا أعرف في أيِّ كتاب، أو مخطوطة، عثر على تلك التَّقارير! لكنَّها، على
أيِّ حال، قدَّرت عددًا مقبولًا لضحايا السُّلطان المسلم من الهنود، يُعتبَر
جَيِّدًا بالنِّسبة للأرقام التي ذكرها غير زيدان.
فأين المليون والنِّصف
مليون قتيلًا هِنديًّا من العدد الذي ذكره مُؤرِّخ اسمه مُحمَّد قاسم هندو شاه
الأستر أبادي، وذلك في كتاب له عنوانه: "تاريخ فرشته"!
ذكر ذلك المؤرِّخ أنَّ ما
لا يَقلَّ عن 400 مليون هندوسيّ قُتِلوا خلال الغزو الغرنوي للهند. وقدَّر
سكَّان الهند 600 مليون نسمة، فتركها الغرانوة 200 مليون نسمة! وهو تقدير بالغ الشُّذوذ لعدد الهنود قبل ألف
عام تقريبًا. ويقال إنَّ ذلك المُؤرِّخ (مُحمَّد قاسم الأستر أبادي) هو أوَّل من
تكَلَّم عن حمَّامات الدَّم هذه. العجيب أنَّه كتب تاريخه ذلك في نهايات القرن
السَّادس عشر، أي بعد انتهاء حروب الغزنوي مع الهند بثمانية، أو تسعة قرون،
تقريبًا!
أمَّا أعداد قتلى الهنود،
التي ذكرها ذلك المُؤرِّخ، فلا يمكن الاعتداد بها عقلًا، إذ لو أُخِذت على محمل
الجِدّ، فهذا يعني أنَّ السُّلطان محمود كان يقتل سنويًا ما عدده 13 مليون هنديًّا! فإذا كان مُثبتًا أنَّه
لم تكن لهذا السُّلطان سوى غزوة واحدة، سنويَّة، تستمر لثلاثة أو أربعة شهور فقط،
فإنَّ هذا العدد من القتلى يدخل في إطار المستحيلات.
لكن، وبمقابل مبالغة
المُؤرِّخ المسلم (الشَّيعيّ) مُحمَّد قاسم، نجد تَعقُّلًا واضحًا من أحد
المُؤرِّخين الإنجليز المُهتمِّين بالأمر، وهو الدُّكتور كونراد الست، الذي قدَّر
أنَّ المسلمين قتلوا 6 مليون هنديًّا على مدى 13 قرنًا من الزَّمان.
وغير هذا المُؤرِّخ
الإنجليزي قال ذلك، مثل: وول ديورانت، وفرانسوا جاتيير، وفيرنارد برادويل، والان
دانيلو.
ما يعني أنَّ المسلمين لم
يقتلوا من الهنود، كل سنة، أكثر من خمسة آلاف فردًا!
لقد كان السُّلطان محمود
يتحامل فعلًا على الشِّيعة، فتحامل عليه المُؤرِّخ الشِّيعي.
أمَّا زيدان فقد ذكر
عددًا، لقتلى الهنود، لو قسَّمناه على عدد سِني حكم السُّلطان محمود، فسنجد أنَّ
ضحاياه لم يكن عددهم ليتجاوز، سنويًا، الـ50 ألف قتيلًا. ثُمَّ إذا قسمنا هذا الرَّقم على الثَّلاثة أشهر
السَّنويَّة، فإنَّ قتلى كُلّ شهر لن يتجاوز عددهم الـ17 ألف قتيلًا، وهو رقم طبيعيٌّ بالنِّسبة لأرقام ضحايا المعارك
القتاليَّة في تلك التَّواريخ القديمة.
وإذا لم يكن زيدان على
دراية بأنَّ معارك العصور القديمة، التي استخدمت فيها السُّيوف وآلات الحرب
البدائيَّة، كانت عبارة عن مجازر معتادة، وأنهار دم، تُمجِّد القائد المُنتصر،
فليسأل إذن عن عدد ضحايا مدينة طيبة المَقدونيَّة، أو عدد ضحايا معركة إسوس، وهما
المجزرتين فقط من عشرات المجازر التي ارتكبها القائد العسكريُّ الذي خطط وبنى
المدينة التي ينتمي إليها يوسف زيدان: الإسكندريَّة!
لكن، لماذا نعود إلى
مجازر التَّواريخ القديمة إذا كان بإمكاننا الاستشهاد بمجازر ارتكبها إنسان العصر
المُتحضِّر، الإنسان المُتمدِّن، الذي خرج من شرنقة عصور النَّهضة مُتسلِّحًا
بالحضارة والرُّقيّ؛ الإنسان الأوروبيّ الذي يطمح زيدان، وأمثاله، في لو أنَّ
الإنسان العَربيّ المسلم يتخَلَّى عن أيديولوجيَّته وعقيدته ليكون صورة
منه. لقد كان عدد ضحايا الحرب العالميَّة الأولى، والتي لم تدر رحاها
لأكثر من أربع سنوات فقط، أكثر من 10 مليون جندي.
هناك من ارتفع بالرَّقم
إلى 16 مليون
جندي، فضلًا عن القتلى المَدنيِّين.
أمَّا الحرب العالميَّة
الثَّانية، والتي استمرَّت لسِتّ سنوات فقط، فقد أسدلت ستائرها الدَّامية على أكثر
من 65 مليون
قتيل، معظمهم راحوا ضحيَّة قنبلتَين ذَرَّيتين ألقتهما مقاتلة أمريكيَّة على
جزيرتَي هيروشيما وناجازاكي اليابانيَّتين، لتبيد الإنسان والحيوان، والزُّروع،
والحشرات. لتبيد جميع أشكال الحياة.
هذه هي الأرقام التي
تستحقّ النَّظر فيها بإدانة بالغة، لا مُجرَّد مليون ونصف أُزهِقت أرواحهم على
مدى 32 عامًا
قضاها السُّلطان محمود الغزنويّ في الحكم، مُحاربًا للهنود حربًا مشروعة وقتها.
لذلك، ومهما اعتُبِر مسلك
ذلك السُّلطان المسلم دَمويًّا، في حروبه ضِدّ الهند، فالرَّجل لم يفعل ما هو
مغاير عن فعل السَّلاطين والملوك في زمانه. لقد حارب مثلما حاربوا، وقاتل مثلما
قاتلوا.
والنَّصر لصالح من يُثخِن
في قتل أكبر عدد من أعدائه.
وبذلك استحَقّ السُّلطان
محمود مكانته العالية كفاتح عظيم، ومنشئ لدولة قَويَّة، يحسب لها أعداؤها ألف
حساب. وهذا تحديدًا (نقصد: قُوَّة إحدى دول الإسلام) هو ما يفقع مرارة زيدان
وأمثاله، من وجهة نظرنا.
وكان أبو الرَّيحان
البَيرونيّ أحد المُقرَّبين للسُّلطان محمود الغزنويّ، وعمل في بلاطه عالمًا للفلك
والمُنجِّم الخاصّ له.
والبَيرونيّ أحد أشهر
علماء البحث العلميّ في الإسلام، وفي غير الإسلام؛ وكان بالإضافة إلى ذلك رحَّالة،
وفيلسوفًا، وفَلكيًّا، وجُغرافيًّا، ورياضيًّا، وصَيدليًّا، ومُؤرِّخًا،
ومُترجمًا.
ومن أوائل من قالوا
بدوران الأرض حول محورها.
فكان البَيرونيُّ يلازم
السُّلطان محمود في معاركه ضِدّ الهند، مثلما كان أرسطو يلازم الإسكندر الأكبر في
معاركه ضِدّ العالم القديم؛ ولم ير أيٌّ من هذَين الفيلسوفين غضاضةً في الدَّفع
بسلطانه وملكه تجاه الحرب، ومؤازرته لكسبها، ولو على حساب مئات الآلاف من
الضَّحايا.
ولا يزال بعض فلاسفة
عصرنا الحديث يكتبون ما يُؤيِّد ضرورة الحرب وأهمِّيتها، لكن (مُفكِّرو)
الانهزاميَّة والانبطاح في بلادنا العربيَّة، والإسلاميَّة، ابتلعوا طعم السَّلام
العالميّ الذي يجب أن يكون! فصاروا ببغاوات تُردِّد ما يُلقَّنوه، فكان أن
اقتنعت الببغاوات بصحَّة ما لُقِّنت درجة تسفيه، وتحقير، أعلام العِزَّة
والكرامة في التَّاريخ الإسلاميّ والعَربيّ.
المهم؛ بسبب ملازمة
البيرونيّ للسُّلطان محمود الغزنوي، في فتوحات الهند أمكنه التَّعرُّف على
العَالَم الهِنديّ عن قرب، فتفاعل مع ثقافته تفاعلًا مفيدًا، كان نتاجه أن كتب
البَيرونيُّ أحد أشهر مُؤلَّفاته الكبرى، وهو: "تحقيق ما للهند من مقولة
مقبولة في العقل أو مرذولة".
ولُقِّب البَيرونيّ بسبب
دراساته عن المجتمع الهِنديّ بـ"مؤسِّس الهِنديَّات"، أو "مؤسِّس
علم الهند"، ثم كان، نظرًا لوصفه غير المسبوق لهذا القطر الكبير، المُتنوِّع،
أن لُقِّب البَيرونيُّ بالأستاذ.
وحديثًا احتفى العالَم
بالبَيرونيّ، فانتج الاتِّحاد السُّوفيِّيتي في السَّبعينيَّات فيلمًا عن
البَيرونيّ، كما تَمَّ إطلاق اسمه على إحدى الفُوَّهات البُركانيَّة على سطح
القمر، بل وأُطلِق اسمه أيضًا على أحد كويكبات مَجرَّة درب التَّبَّانة،
مَجرَّتنا.
فأين زيدان المسكين من
البيروني العظيم؟ مجرَّد زيتونة تحت كوكب، مع ذلك يزايد على إنسانيَّة البَيرونيّ
وفهمه، عندما يهمز ويغمز السُّلطان المسلم بما لم يهمزه أو يغمزه عليه البَيرونيُّ
نفسه!
8 ـ ثُمَّ أتى زيدان على ذكر
السُّلطان بيبرس البندقداريّ، فقال إنَّه أقدم على إحياء الخلافة العَبَّاسية، فقط
لمُجرَّد أن يقتنص بيبرس شرعيَّة الحكم. ثُمَّ استطرد مُعلنًا عن اكتشافه الفِكريّ
الكبير: نقصد، أيّها النَّاس، أنَّ هذه الخلافة ليست إلَّا شكلًا! بيبرس أراد أن
يحكم، وهو ليس عَربيًّا، فيما الحديث يقول: الإمامة من قريش. إذن ليس مُهمًّا أن
يصف نفسه بالإمام، ليصف نفسه إذن بالسُّلطان.
وها هو نَصّ ما قاله
بالعاميَّة المِصريَّة: يعني يا جماعة الخلافة دي منظر! عايز يحكم وهو مش عربي،
والحديث بيقول: "الإمامة من قريش". طب مش مهم الإمام، احنا نقول
السُّلطان.
أقول: لو لم نحتاج سوى
إلى فقرة واحدة للتَّأكيد على الجهل المُركَّب الذي يعاني منه زيدان، وعلى
الاستهتار الذي ينتهجه في أثناء مخاطبته للمشاهدين على الفضائيَّات، لما احتجنا
لغير هذه الفقرة.
إذ المعروف، يقينًا، أنَّ
بيبرس البندقداريّ كان سلطانًا بالفعل، حاكمًا بالفعل، قبل محاولته تنصيب خليفة من
ذُريَّة بني العباس.
ثُمَّ؛ لو كان بيبرس
يحتاج إلى الخلافة، ليكون إمامًا من قريش (ولا أعرف كيف يمكن للمرء الانتساب
لقريش، بأن يكون خليفة، إذا كان العكس هو الصَّحيح!)، لنَصَّب نفسه خليفة على
المسلمين، لا يُنصِّب أحد ذُرِّية بني العبَّاس.
أمَّا الباحث المنصف
فإنَّه يستطيع معرفة دافع السُّلطان بيبرس لإعادة الخلافة، وتنصيبها في القاهرة.
وهو: ما كان لها (الخلافة) من شأن كبير في نفوس المسلمين جميعًا، حُكَّامًا
ومحكومين، بحيث أنَّها كانت من الأهميَّة، بالنسبة لهم، ما لأهميَّة البَوصلة
بالنِّسبة لقبطان يمخر بسفينته عباب البحار، وما لأهميَّة النُّجوم بالنِّسبة
للمسافر في مفازات لا معالم لها.
كان بيبرس يريد ضبط
اتِّزان أُمَّة الإسلام.
ثُمَّ إدراكه أنَّ جعل
مصر مَحلًّا للخلافة سيمنحها وضعًا جديدًا، مُفعمًا بالمُميِّزات العظيمة. وقد
أُسبِغت على القاهرة فعلًا بعد ذلك، كدار للخلافة الإسلاميَّة.
لم تكن الخلافة مُجرَّد
شكل، كما يهرف زيدان بلا أدنى قدر من حياءٍ عِلميٍّ.
ثُمَّ تأتي نهاية الفقرة
كأشبه ما يكون بكلمة يقولها بهلوان مُهرِّج، لا (مُفكِّر!)، من حيث فقدها
للاتِّساق، وبالتَّالي للمعنى؛ وحَريٌّ بها أن تكون كذلك، إذا كانت خاتمةُ حديثٍ
لا يَتَّسم بأيِّ منطق مُتعقِّل.
وإخال زيدان لا يعلم،
أيضًا، أنَّ ألقاب الملوك والسَّلاطين لم يكن ينتقيها الحاكم اعتباطًا، بل كان
لكُلّ لقب شرطه المُحقِّق له؛ فالملِك، غير ملِك الملوك، وملِك الملوك غير
السُّلطان، والسُّلطان غير سلطان السَّلاطين.
ثُمَّ بالأخير، ليس
ثَمَّة مشكلة بين الحُكَّام والألقاب إذا أرادوها على هواهم، لا على ما يقتضيه
الشَّرط، إذا كان الواحد منهم مُحاطًا بكثير من أمثال زيدان، المُستعدِّين لقَول
ما يرغب الأمراء، والملوك، والسَّلاطين، في سماعه، حتَّى ولو لم يطلبوا منهم ذلك.
9 ـ ذكر زيدان، في هذه النُّقطة، السَّبب
الذي جعل (علماء الأزهر) يرفضون ما جاء في كتاب "الإسلام وأصول الحكم"؛
فقال: "إذا انتهت الخلافة انتهى المصدر الذي يأكل منه هؤلاء عيشَهم، وهؤلاء
موجودون دائما. لقد رأيت أردوغان، قبل سنة أو سنتَين، في عرض. فقاطعه عمرو أديب:
نعم رجل الخلافة والقصر (يقصد أردوغان). فقال زيدان بنبرة احتقار: أراجوز! أنا
رأيت أراجوز، ليس قائد دولة، ولا رئيس دولة، هذا اداء أراجوزات.. رجب طَيِّب
أردوغان يعلم جَيِّدًا ما كان يفعله الخلفاء العُثمانيُّون، وهو لا يستطيع أن يفعل
ما فعلوه، لا يستطيع قتل إخوته ليحافظ على ملكه.. هو مُهرِّج كبير.
وها هو النَّصّ
بالعاميَّة المِصريَّة؛ قال زيدان: هو لمَّا يقول ما فيش خلافة يبقا كل اللي
بياكلوا عيش من الموضوع ده مش هايعرفوا ياكلوا عيش. ودول موجودين دايمًا. أنا شوفت
أردوغان من سنة أو سنتين عامل عرض كده / عمرو: أيوه بتاع الخلافة والقصر / زيدان:
أراجوز. أنا شوفت أراجوز. مش قائد دولة. ولا رئيس دولة. ده شغل أراجوزات. لأنُّه
هو أردوغان.. رجب طيِّب أردوغان عارف كويِّس أوي الخلفاء العثمانيِّين كانوا
بيعملوا إيه. وهو ما يقدرش يعمل زيهم. هو ما يقدرش يقتل اخواته عشان يحافظ على
ملكه.. هو مُهرِّج كبير.
نقول: يواصل زيدان ارتكاب
المغالطات، فيُصرّ، أوَّلًا، على أنَّ الفقهاء، أو الأصوليِّين عمومًا، لا
يتمَسَّكون بأيِّ شعيرة، أو سمت، أو مظهر دينيٍّ، إلَّا لأنَّ هذا التَّمسُّك هو
ارتزاق لأكل العيش!
وقد تُقبَل لزوجة هذا
التَّفسير لو قَدَّمه أحد فاقدي القدرة على النَّظر في المسألة، لكن كيف يمكن
قبوله من (مُفكِّر!) يزعم أنَّه قرأ كثيرًا، وفكَّر طويلًا.
ثُمَّ لننظر إليه وهو
يحيد بالحوار إلى أردوغان، رئيس تركيا، لا لشيء إلَّا للسُّخرية منه، وتحقيره، دون
تقديم أسانيد لما يقوله.
لكن، بعيدًا عن قيمة
أردوغان الفِعليَّة كرئيس لتركيا، يبقى حديث زيدان الوقح عنه معروف الدَّوافع؛
فالرّجل يعرف أنَّ أردوغان ليس على علاقة طَيِّبة مع النَّظام المِصريّ الحاكم
برئاسة السَّيِّد عبدالفتَّاح السِيسيّ، فأراد تقديم مجاملة (على الماشي) لنظام
الحكم المِصريّ، مجاملة سريعة، خاطفة، لكنَّها مُؤثِّرة في مسيرة رجل (مُفكِّر!)
يسعى إلى كسب المزيد من الرِّضا الرئاسيّ، ليظَلّ مُحتفظًا بموقعه في بؤرة أضواء
الفَضائيَّات، وغيره من كحكة الفَعاليَّات الثَّقافيَّة في مصر والوطن العَربيّ.
لذلك، إذا تصوَّرنا
تَحسُّن العلاقات بين مصر وتركيا يوم غد، وتَمّ توجيه الإعلام المِصريّ للحديث
بشكل جَيِّد عن أردوغان، فسيخرج زيدان مُطبِّلًا لأردوغان، ومن غير كسوف!
10 ـ ثم كان أن تكلَّم زيدان في أحوال بعض
الخلفاء سيِّئي الذِّكر، ليُدلِّل بأحوالهم السَّيِّئة على أنَّ الخلافة لم تكن
بالمنصب النَّبيل الجدير بإسباغ القُدسيَّة الدِّينيَّة عليه؛ فتناول أمير
المؤمنين يزيد بن معاوية، ووصفه بوصف لم يصفه به أحد من علماء، أو فقهاء، الإسلام
من السُّنَّة، لكن أطلقه عليه علماء وفقهاء الشِّيعة: يزيد الفاجر.
وبرَّر زيدان وصف يزيد
بالفاجر بأنَّ يزيد أمر، في أحد مواسم الحَجّ، بنصب أدوات الشَّراب فوق الكعبة،
وشرب على سطحها.
ولأنَّه (يزيد) أُتِيَ
مرَّة بالمصحف، فأراد أن يستفتح به (والاستفتاح المقصود هنا شيء يشبه ضرب الودع؛
وهو أن يُفتَح المصحف كيفما اتّفق، وينظر الآيةَ التي ستظهر له، فيستبشر، أو غير
ذلك)، ففتح يزيد المصحف، فطالعته الآية: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}، فمزَّق
المُصحف، وقال شعرًا..
وبينما زيدان يقول
الشِّعر المذكور؛ وهو:
أتتوعَّد كُلَّ جبَّارٍ
عنيدٍ فها أنا ذاك جبَّار عنيدُ
إذا لاقيت ربَّك يوم حشرٍ فقل
لله مزَّقني الوليدُ.
فانتبه زيدان إلى أنَّه
قد أحدث خلطًا بين الخليفتَين، يزيد والوليد، ثُمَّ بدلًا من أن يُبيِّن الخلط،
ذهب إلى محاولة تذكُّر اسم الوليد بالكامل، فلم يمكنه ذلك، فقال: هو ابن من بنى
قُبَّة الصَّخرة. قالها هكذا بالعاميَّة المِصريَّة: هو ابن اسمه ايه اللي بنى قبة
الصخرة ده؟
فعاجله عمرو أديب
بالإجابة قائلًا: نعم، مروان بن عبدالملك. بالعامِّيَّة المِصريَّة: آه، مروان بن
عبدالملك.
أقول: في هذه النُّقطة
العاشرة أحدث (المُفكِّر!) يوسف زيدان خلطًا شنيعًا في معلومات ووقائع تاريخيَّة
معروفة، عندما نسب ليزيد ما فعله الوليد، وبرَّر بأفعال الوليد المشينة تلقيب يزيد
بالفاجر رغم براءته منها! وعندما اكتشف الخطأ الذي ارتكبه لم يبادر، كما يليق
بأيِّ مُفكِّر مَوضوعيٍّ، إلى توضيح الالتباس، ومن ثَمَّ إلى ذكر الأسباب التي
أدَّت به إلى موافقة الشَّيعة على وصف يزيد بالفاجر!
لكن؛ ولأنَّ زيدان أبعد
ما يكون عن المُفكِّر المَوضوعيّ، فقد كان هَمُّه ألَّا يظهر مخطئًا أمام مئات
ملايين المشاهدين، فمعظمهم، إذا كان يهتمّون بالجلوس لمشاهدة برنامج عمرو أديب،
ليسو على المستوى الثَّقافيّ الذي يؤهلهم لمعرفة السَّقطة التي وقع فيها زيدان،
على ذلك قرَّر زيدان، بطريقة المُدلِّسين المعتادة، أن يترك منطقة الخطأ دون
تصحيحها، والذِّهاب باهتمام المتابعين إلى منطقة أخرى؛ وكانت: اسم الوليد بالكامل!
ولأنَّه مرتبك، بسبب
انتباهه لخطئه، لم يستطع تذَكُّر اسم الوليد كاملًا، على شهرته، فكان أن سقط في
خطأ آخر، عندما نسب الوليد إلى من بنى قُبَّة الصَّخرة، وهو كما أجابه عمرو أديب:
مروان بن عبدالملك. وهذا خطأ بَيِّن أجازه زيدان، كعادته، بمنتهى البساطة، وبدون
وازع من الضَّمير الذي يجب أن يتَحلَّى به مُفكِّر يخشى من أنَّ معلوماته الخاطئة
والمغلوطة قد يتلقَّفها الملايين باعتبارها معلومات وآراء صحيحة، وسليمة.
فالوليد هو ابن يزيد بن
عبدالملك بن مروان.
على هذا يكون عبدُالملك
جَدَّه، لا أباه!
والصَّحيح أيضًا أنَّ
الكتب القديمة أوردت قِصَّة الخمر وسطح الكعبة باعتبارها مُجرَّد رغبة أحبَّ
الوليد (لا يزيد) تنفيذها، لكنَّه لم يفعل ذلك استحياء (من النَّاس على أقَلِّ
تقدير).
وهناك فرق بين الأمر إذا
كان مُجرَّد رغبة وبينه إذا صار فعلًا ملموسًا على أرض الواقع.
المُفكِّر المَوضوعيُّ لا
يُوجِّه الاتّهامات إلى شَخصيَّة تاريخيَّة استنادًا إلى رغباتها (خَيِّرة كانت،
تلك الرَّغبات، أو شرِّيرة)، لكن، إذا كان مُفكِّرا يظُنّ في نفسه أنَّه قاضٍ،
فليفعل ذلك بناءً على الأعمال.
كما أنَّ قِصَّة تمزيق
الوليد للقرآن مُختلقَة تمامًا، وهناك الكثير من الإخباريِّين والرُّواة القدامى
ينقلون من الأدِلَّة ما يؤكد أكذوبة تلك القِصَّة، وهو كـ(مُفكِّر!) كان يجب عليه
دراسة ملابسات الانقلاب الذي جرى على الوليد من ابن عَمِّه يزيد بن الوليد، وكيف
أنَّ المُنقلِب يرغب دائمًا في اختلاق الدَّوافع التي تدعم انقلابه لدى الشَّعب،
وليس أفضل من اختلاق شائعة تمزيق المصحف، مع بيتَين شعر يتجرَّآن على الله، لتكونا
دعامتين، من دعامات كثيرة اختُرِعت اختراعًا، لتمكين انقلاب يزيد بن الوليد.
أمَّا عن يزيد، الذي قصده
زيدان بالفاجر، فهو يزيد بن معاوية؛ وقد نقلت بعض الأخبار أنَّه كان يشرب الخمر،
ويُؤخِّر الصلاة، وربما لم يكن يُصلِّي بالأساس؛ مع ذلك فليس من أجل هذه
الانحرافات لقَّبت الشِّيعة يزيد بن معاوية بالفاجر، فكثير من الخلفاء فعل مثل
يزيد، بل لأنَّه كان الخليفة الذي قُتِل الحسين بن عليٍّ بن أبي طالب (شهيد
كربلاء)، رضي الله عنهما، في عهده. وهو أيضًا من أوقع بالكثير من آل عليٍّ بن أبي
طالب في وقعة الحرَّة بالمدينة المُنوَّرة.
11 ـ رغب زيدان في نزع أصل الخلافة من
القرآن الكريم، الوارد في الآية القرآنيَّة: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ
خَلِيفَة}، فأخبر عن أنَّ هناك قراءة أخرى ليس فيها كلمة (خليفة)، بل (خليقة)؛
فتكون الآية: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليقَة}.
وقال زيدان إنَّ هذه
القراءة لحفص، ولكثيرين من القُرَّاء غيره.
أقول: أعجبني ما قاله
زيدان كدوافع لجدارة كلمة (خليقة) بالوجود مكان كلمة (خليفة) في الآية القرآنيَّة
الكريمة، وكان وجه تفسيره محترمًا.
فأن يقول اللهُ لملائكته
إنِّي جاعلٌ في الأرض (خليقة)، فتجيبه الملائكة بما يشبه الاعتراض: {أتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ..}، أقرب للعقل، وللأدب، من أن
يقول اللهُ لهم إنِّي جاعلٌ خليفة (أي: خليفة له)، فيجيبونه بالجواب السَّابق
(والله أعلم).
لكن كعادة زيدان،
المُدلِّس، فإنَّه أكَّد على أنَّ قُرَّاء (خليقة) كثيرون، وهذا لا يَصحّ، فليس
لـ(خليقة) من قُرَّاء غير حفص، وآخر يدعى أبا البرهسم.
12 ـ حاول عمرو أديب التَّأكيد ليوسف
زيدان على أنَّ الحكم تكوينٌ إسلاميٌّ، فقال: الرَّسول كان يحكم المدينة / قاطعه
زيدان: كان يديرها بوصفه نبيًّا / فقال عمرو: لكن الخليفة من بعده لم يكن نبيًّا!
/ أصَرَّ زيدان: كان يديرها / قال عمرو راغبًا في التَّأكيد على أنَّ النُّبوَّة
كانت مصدر القرارات: قرارات الحرب والسَّلام كان يتخذّها النَّبيُّ / قال زيدان
مُصرًّا على إزاحة فكرة أنَّ مُحمَّدًا، صلَّى الله عليه وسلَّم، كان يحكم بصفته
نَبيًّا: هذا جزء من نُبوَّته / تمسَّك عمرو بمنطقه، وساق حديث تكليف رسول الله
لمعاذ بن جبل حين أرسله لليمن (بماذا تحكم يا معاذ؟) دليلًا على أنَّ هناك صيغة
حكم، وليس دين فقط.
عند هذه النُّقطة الحاسمة
قال زيدان محتارًا: يعني إيه دين فقط!
فأكَّد عمرو أديب على
أنَّ الإسلام بهذا الحديث هو دين ودولة.
كان الارتباك، المطليُّ
بمسحة من الغضب، قد لاح على وجه زيدان، الذي قال: كلمة (الإسلام دين ودولة) ظهرت
بعد ظهور هذا الكتاب (يقصد كتاب: الإسلام وأصول الحكم).
أقول: بعيدًا عن سفسطة
زيدان (التي لا يمكن مناقشتها بحال) بخصوص أنَّ النَّبيَّ كان لا يحكم المدينة
بصفته نَبيًّا، وإنَّما كان يديرها (ولم يُحدِّد بأيِّ صفة كان يديرها!). فإنَّ
هذه النُّقطة الثَّانية عشرة كشفت إلى أيِّ درجة تبلغ سَطحيَّة زيدان، الذي إذا
رأى أنَّ المنطق لن يستطيع إسعاف مغالطاته، لا يركن إلى الحَقِّ، بل يسارع إلى
السَّفسطة.
فالحَقُّ أنَّ عمرو أديب
ـ على ما نظنّه من ضحالة مطالعاته بالنِّسبة لزيدان ـ إلَّا أنَّه تمَكَّن من
إفحام زيدان في تلك المناظرة الخاطفة (الخارجة على النَّصِّ من وجهة نظري)، ومن
ثَمَّ الدَّفع به إلى ارتكاب المزيد من الأخطاء البلهاء؛ فيزعم أنَّ مقولة:
الإسلام دين ودولة؛ لم يكن لها وجود قبل ظهور كتاب الإسلام وأصول الحكم.
وربما بالفعل لم تكن لهذه
المقولة بمبناها هذا "الإسلام دين ودولة" وجود قبل ظهور أفكار حسن
البنَّا، لكن لها وجود أكيد، بصور أخرى، منذ نشأة الخلافة، بالحاكم الأوَّل بعد
النَّبيّ، صلَّى الله عليه وسلَّم: أبو بكر الصِّدِّيق.
13 ـ وكان أن تعرَّض زيدان للكلام في
كيفيَّة تدبير عمر بن الخطَّاب أمر الخلافة، من بعده، وهو على فراش الموت، بعد أن
طعنه أبو لؤلؤة المجوسيّ؛ فقال زيدان: عندما طعن (يقصد عمر بن الخطاب) أتَى بخمسة:
عليّ بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأظن عُبيدة بن الجرَّاح، وربما الزُّبير بن
العوَّام. وقال لهم: اختاروا واحدًا منكم. ومعكم عبدالله بن عمر، وكان قد وضعه
بصفة مراقب. فلم يتَّفقوا، وهو (يقصد عمر) ينزف ويموت؛ فأخبروه بأنَّهم لم
يتَّفقوا، وطلبوا منه مهلة إضافيَّة؛ فقال لهم: غدًا تجلسون. ولو لم تتَّفقوا
ستُقتلون أنتم الخمسة.. وتولَّى عثمان.
وها هو نصّ ما قاله
بالعاميَّة المِصريَّة: لمَّا طُعن راح جايب خمسة، علي بن أبي طالب، وعثمان بن
عفَّان، وأظن عُبيدة بن الجرَّاح، ويمكن الزُّبير بن العوَّام. اختاروا واحد
ومعاكم عبدالله بن عمر. هو حاطه بصفة مراقب، فما اتَّفقوش، وهو راجل بينزف وبيموت،
فقالولوه ما اتَّفقناش، ادِّينا مهلة كمان، فقالُّهم بكرة تقعدوا، ولو ما
اتَّفقتوش هاتتقلتوا انتوا الخمسة. وتولَّى عثمان.
أقول: لمَّا طعن عمر بن
الخطاب، طالبه الصَّحابة بالاستخلاف، (ما جابش كده من دماغه)، فرفض تعيين اسم،
وقال: لا أحملها حَيًّا وميتًا.
فقد خشي من أن يختار
أحدَهم، فيظلم النَّاس، فيتَحمَّل هو من وزره.
مع ذلك فإنَّ عمر تمَنَّى
لو أنَّ أبا عبيدة بن الجرَّاح كان حَيًّا، لاستخلفه من بعده، فلو سأله الله عن
ولايته، لقال: سمعت رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، يقول: "أبو عبيدة أمين
هذه الأُمَّة"، فوَلَّيتُ عليها أمينها.
لكن أبو عبيدة كان ميتًا،
ولم يكن بحال من الأحوال من السِّتَّة (وليس الخمسة كما زعم زيدان بمنتهى الثِّقة)
الذين رشَّحهم عمر ليختار النَّاس أحدهم خليفةً، في غضون ثلاثة أيَّام فقط.
وكانوا: عليّ بن أبي طالب، وعثمان بن عفَّان، وطلحة بن عبيدالله، والزُّبير بن
العوَّام، وسعد بن أبي وقَّاص، وعبدالرَّحمن بن عوف.
وكان بعض النَّاس قد أشار
عليه باستخلاف ابنه عبدالله بن عمر؛ فرفض قائلًا: يكفي آل الخطَّاب أن يُسأل منهم
واحدٌ فقط عن حال الأُمَّة. ثُمَّ وضع عبدالله بين السِّتَّة ناصحًا ومُرجِّحًا،
على ألَّا يكون له من الخلافة شيء.
انقضت الأيَّام الثَّلاثة
دون اتّفاق، وأفضى عمر إلى رَبِّه.
وفي الصَّبيحة الرَّابعة
من طعن عمر تَمَّ اختيار عثمان بن عفَّان خليفة له، وذلك بعد أن أخرج عبدالرَّحمن
بن عوف نفسه من السِّتَّة.
أعِد الآن قراءة ما قاله
زيدان على شاشات الفَضائيَّات، لتدرك فداحة الأخطاء التي وقع فيها، والمغالطات
التي ساقها، بأريحيَّة لا يمكن توافرها لدى (مُفكِّر!)، فضلًا عن مُثقَّف بسيط
الثَّقافة.
3
وجهان لزيدان
زيدان المَوضوعيُّ
المُسالم.
وسنحيط به عِلمًا في
عِدَّة نقاط.
1 ـ كان زيدان قد رصد سلوك المُتكلِّمة
من المعتزلة، في كتابه "اللاهوت العربي"، بعد أن رَوَّعتهم النِّهايات
الفاجعة لبعض رؤوسهم؛ قال: "... اكتفوا بالمباحث الكَلاميَّة النَّظريَّة،
وفصلوا بينها وبين النِّضال السِّياسيّ، وتحاشوا إغواء الخروج، فقَرَّر أئمَّةُ
المُعتزَلة أنَّ الأصل الخامس في مذهبهم، الذي هو سمة من سمات الإيمان (الأمر
بالمعروف والنَّهي عن المنكر) يمكن الاكتفاء فيه بالمشاعر القَلبيَّة، أو بقول
اللسان فقط من دون عمل الجوارح. أي من دون الخروج على الحُكَّام الظَّالمين! ومن هنا
عاش المعتزلة، والأشاعرة من بعدهم، في كنف الحُكَّام الأُمويِّين والعَبَّاسيِّين
من بعدهم. بل إنَّهم، للأسف، استعانوا أحيانًا بالحُكَّام على مخالفيهم في المذهب
الكَلاميّ".
قبل التعليق على هذه
الفقرة سنحاول تكوين صورة مُبسَّطة لهؤلاء المُتكلِّمة المسلمين القدامى،
كوَّنَّاها على أساس ما أفادتنا به المعلومات عن طبائعهم، وآدابهم، وثقافاتهم،
ومسالكهم التَّوعويَّة في المجتمع المحيط بهم.
إنَّهم قوم يهتدون
بالنَّصِّ الإسلاميِّ المُقدَّس: القرآن، والسُّنَّة. مع ذلك يُقدِّمون العقل
لتفسير هذه النُّصوص، دون اعتماد على ما فهمه السَّابقون من الصَّحابة أو
التَّابعين بإحسان.
فمهما كان النَّقلُ عن
أجِلَّاء إلَّا أنَّهم يُعلون العقل؛ إنَّهم يحيدون عن الاتِّباع بلا فهم، وتحمل
أنفسهم الكثير من التَّمرُّد والرَّغبة في إثبات ذواتهم، وكأنَّهم هم من قالوا
بنبرة التَّحدِّي: هم رجال، ونحن رجال.
أقول: المُتكلِّمة هم
مُثقَّفو الإسلام الأوائل. هذه هي الصُّورة الذِّهنيَّة الأقرب لهم.
فإذا نزعنا مُتكلِّمة
المعتزلة من الفقرة السَّابقة، ووضعنا مُثقَّفي عصرنا في أماكنهم، سنلاحظ أنَّ
الشَّبه بين وَضعيَّة وسلوك مُثقَّفي العصر الإسلاميّ الأوَّل وبين وَضعيَّة وسلوك
مُثقَّفي العصر الحاضر يكاد يكون مُتطابقًا.
فما أن يظهر سوط السَّلطة
حتَّى يبادر المُثقَّفون إلى فصل السِّياسة عن الخطاب الثَّقافيّ. قبل أن يسارع
بعضُهم إلى الارتماء في حِجر السُّلطة رَهبًا أو رَغبًا.
بل، ويا للأسف، يصل الأمر
بفصائل منهم إلى حَدّ استدعاء السُّلطة، والاستقواء بها، لإقصاء فصائل أخرى، منهم،
لأنَّها ذات ركيزة ثقافيَّة مختلفة، وخطاب تَنويريّ مختلف!
2 ـ وفي تأكيد الصِّلة بين الدِّين
والسِّياسة قال زيدان في خاتمة كتابه: "... يحلو لكثير من مُفكِّرينا
المعاصرين ترديد ما فحواه أنَّ الدِّين ينبغي أن يَظلّ بعيدًا عن السِّياسة،
وتظَلّ السِّياسة بعيدًا عن الدِّين. هذا ما يزعمون ويُبشِّرون به وكأنَّه
الاستنارة الباهرة، أو هو حسبما صاروا يُسمُّونه مُؤخَّرًا (العلمانيَّة)، تلك
اللفظة ملتبسة الدَّلالة. إنَّما مرادنا فحسب الإلماح إلى أنَّ الفصل بين
السِّياسة والدِّين سيبقى دومًا، مثلما كان دائمًا، محض تَوهُّم تُبدِّده حقائق
التَّاريخ العَقائديُّ للدِّيانات الرِّساليَّة الثَّلاث (الإبراهيميَّة) التي
امتزج فيها الدِّين بالسِّياسة امتزاجًا شديدًا، يصعب معه في كثير من الأحيان
تمييز ما هو سِياسيٍّ مِمَّا هو دِينيٍّ".
أقول: إنَّ زيدان، بهذه
الفقرة من كتابه، يستهجن بوضوح رأي القائلين بضرورة فصل الدِّين عن السِّياسة،
خصوصًا الدِّيانات (الرِّساليَّة) الثَّلاث، ويعتبر مثل هذه المطالبات محض أوهام،
ما يعني إيمانه باستحالة حدوث مثل هذا الأمر، لأنَّ السِّياسة امتزجت بهذه
الدِّيانات الثَّلاث امتزاجًا شديدًا، درجة عدم القدرة على تمييز الدِّينيِّ من
السِّياسيِّ فيها.
فما الحلُّ، إذا كان
ثَمَّة أزمة كبيرة معقودة بين سِياسيّ ودِينيّ الوطن الواحد، ربما تعصف بأمن
ومستقبل هذا الوطن؟
يُقدِّم زيدان الحَلَّ
المُتعقِّل، القويم، في بحث يقع بنهاية كتابه؛ عنوان هذا البحث: "جَدليَّة
العلاقة بين الدِّين، والعنف، والسِّياسة". وفي فقرة منه،
عنوانها: "الفهم والتَّفهُّم"، قال الرَّجل:
لا يمكن معالجة عَمليَّة
التَّفاعل الضَّروريّ بين الدِّين والسِّياسة إلَّا استنادًا لفهم عميق، متبادل،
لطبيعة ما هو دِينيّ وما هو سِياسيّ. ولن يأتي هذا الفهم إلَّا بالاعتراف المتبادل
بمشروعِيَّة النَّظرة السِّياسيَّة (المُمكنة) وضرورة الرُّؤية الدِّينيَّة
(المطلقة) بالنِّسبة للمجتمعات. لا بُدَّ من تكريس هذا الوعي لدى أفراد المجتمع،
وتأكيده، ببرامج تَثقيفيَّة ومناهج تَربويَّة تُوضِّح ذلك التَّلازم (المُمكن/
المُطلق)، وتُكرِّس تكاملهما في العَمليَّة الاجتماعيَّة بعيدًا عن الطَّنطنة
(العلمانيَّة) الجوفاء بانفصال الدِّين عن السِّياسة.
ويستطرد زيدان مُوضِّحًا
مساحات أخرى من وجهة نظره الدَّاعية إلى ضرورة التَّوافق بين الدِّين والسِّياسة،
فيقول: ".. وقد آن الأوان أيضًا لتَفهُّم الظَّواهر الدِّينيَّة الوليدة، ذات
الطَّابع الانبثاقيّ، والكَفّ عن محاولة وأدها بقُوَّة في مهدها. لأنَّ الذي يحدث
عادة، هو أنَّه بين بضعة انبثاقات يتِمّ وأدها سِياسيًّا بنجاح مُتخيَّل، تفِرّ
موجة دِينيَّة وليدة، وتتَسلَّح بميراث دفين من القهر المتوالي للموجات السَّابقة
والانبثاقات الموؤدة، فيتضاعف عندها الحقد تجاه المجتمع، مجتمع السَّاسة
والعوَامّ، وتتَأكَّد لديها الرَّغبة التَّدميريَّة والإزاحة التَّامَّة للسُّلطة
القائمة، التي تراها الجماعة الدِّينيَّة المحصورة المحظورة، مُمثِّلة للشَّيطان.
فيدور بعنف الجدلُ ثُلاثيّ الأبعاد، ويصير جدالًا وسجالًا وكفاحًا ورغبةً في
الاستشهاد .... ولا علاج لذلك الحال حين يستشري، ولكن من الممكن الوقاية منه
مُبكِّرًا بهذا التَّفهُّم الذي يفسح المجال لقبول الآخر، والاعتراف بحق
الاختلاف".
أقول: كأنَّ الرَّجل
يتكَلَّم عن جماعة الإخوان المسلمين!
فهذه الجماعة، تحديدًا،
ما يحلو للنِّظام الحاكم في مصر، وللمُثقَّفين الدَّائرين في فلكه، تسميتها
بـ(الجماعة المحظورة).
ومع أنَّ هذه الجماعة
(المحظورة) تمَكَّنت من الوصول إلى حكم مصر بأوَّل انتخابات نزيهة، بعد ثورة 25 يناير 2011م، أشرفت عليها مُؤسَّسات الدَّولة القَضائيَّة
والعَسكريَّة وغيرها، إلَّا أنَّ هذا لم يمنع بعض المُتكسِّبين من العمل
السِّياسيّ والثَّقافيّ، وبعض السُّذَّج مِمَّن يُصدِّقون الإعلام المُوجَّه، من
تسميتها بـ(الإرهابيَّة) أيضًا!
إنَّ يوسف زيدان، بسطرَيه
الأخيرَين من الفقرة السَّابقة، يعتبر الظَّواهر الإسلاميَّة المُتمثِّلة في
الجماعات الإسلاميَّة، والتي منها (الإخوان المسلمون)، هي بمثابة (آخر) مشارك
مُجتمعيًّا، يستحقّ أن نتَفهَّمه، وأن نفسح المجال لقبوله، ونعترف بحَقِّه في
الاختلاف.
لكن؛ من يمنع مثل هذا
الفكر المسالم الرَّشيد من التَّحوُّل إلى عمل نبيل على أرض السِّياسة؟ من يمنع
السِّياسيِّين من قبول الآخر الدِّيني؟ من يعمل على تعميق الهُوَّة بين الطَّرفين،
وزيادة وقع التَّباعُد بينهما؟
أجاب يوسف زيدان، في
الفقرة قبل السَّابقة، بوضوح: إنَّهم العلمانيّون!
ثُمَّ يوجِّه إليهم
سبَّابة الإدانة، بجلاء لا لبس فيه، في بحثه المذكور بآخر كتابه "اللاهوت
العربَيّ"، فيقول: "... لا يقتصر التَّطرُّف الرَّافض لأشكال الضَّبط
الاجتماعيّ على الجماعات الدِّينيِّة المُتشدِّدة المناوئة للسُّلطان، وإنَّما
يتَطرَّف العلمانيُّون أيضًا في مذاهبهم، على اعتبار أنَّ جهاز الضَّبط الدِّينيّ
يَحِدّ الحُرِّيَّات. ومن ثَمَّ يجب التَّمرُّد عليه وتقويضه! وما بين تطَرُّف
هؤلاء وهؤلاء تَتِمّ الإطاحة العَلنيَّة والمُستترة بنظم الضَّبط الاجتماعيّ
السَّائدة، القاهرة، غير المتوازنة أصلًا، فينتهي الأمر إلى الصِّدام
الحَتميّ".
ها هو زيدان يُحمِّل
العلمانيِّين نصف المسؤوليَّة عن الخطاب الثَّقافيّ الإقصائيّ، ودوره في حدوث
الاصطدامات الحَتميَّة، أيًّا كان نوعها، سِياسيٌّ أو إرهابيٌّ، ما يعني أنَّهم،
بشكل أو بآخر، سبب رئيس من أسباب تَفجُّر الإرهاب في مصر.
هذا عن زيدان المَوضوعيّ
في "اللاهوت العَربيّ"، فهل لزيدان ظهورًا مَوضوعيًّا في الإعلام
المَرئيّ؟
الإجابة: نعم.
شاهدت له حلقة، في برنامج
اسمه "مش ممنوع"، بتاريخ 12 مارس 2018م، وكان مُقدِّمه إعلاميًّا اسمه عماد
دبُّور؛ صُوِّرت الحلقة في أنحاء مختلفة من مدينة جبيل اللبنانيَّة.
في تلك الحلقة ظهر زيدان
مَوضوعيًّا جِدًّا، مُتعقِّلًا جِدًّا، لا يَتَّسق مع ظهوره المُتهوِّر في قنوات
التِّليفزيون المِصريّ.
ففي تلك الحلقة المدهشة
لم يُوجِّه، ولو لمَرَّة واحدة، همزًا أو لمزًا إلى نحور الفقهاء، بل وَجَّه سهامه
إلى الجهة الأخرى، التي رأى، ونرى معه ذلك، أنَّها كانت سببًا في جميع مشكالنا
المعاصرة، بما فيها مشكلة ظهور التَّيَّار الإسلاميّ المُتطرِّف
(الإرهابيّ).
3 ـ سأله عماد دبُّور عن أسباب الخراب
الذي يعانيه مجتمعنا العَربيّ، فأجاب بلا تردُّد: الخراب الذي فينا لا نريد أن نرى
أسبابه: الاستبداد السِّياسيّ. التَّخلُّف في مناهج التَّعليم. قصور فادح في
التَّثقيف العامّ. تسَلُّط على العقليَّة العَامِّية. سنوات طويلة وزارة الثَّقافة
في مصر كان اسمها وزارة الإرشاد القَوميّ. هذا هو الهَمّ الجاثم، ثُمّ نبحث عن سبب
خارجيّ! ألا يكفي هذا تفسيرًا للتَّخلُّف؟!
4 ـ ثُمَّ، في مساحة أخرى من نفس
البرنامج، قال:
المُعوِّقات فينا.
لا تظُنَّن أنَّ الحركات المُعوِّقة للتَّحضُّر، مثل الجماعات الدِّينيَّة
المُتطرِّفة، والإخوان وغير الإخوان، هبطت من السَّماء، ولا من الماسونيَّة.. هم
إفراز طَبيعيٌّ لحالة الغباء الاجتماعيّ. والقصور في التَّعليم، والهيمنة على
عمليَّات التَّثقيف العامّ، طبيعيٌّ أن تفرز مثل هذه الأفكار المغلوطة، التي
تؤدِّي إلى تراجع.
يوسف زيدان (المَوضوعيّ)
يُوجِّه سهامه، في هذا البرنامج، لسياسيَّات خاطئة مُتنوِّعة، سِياديَّة
وتَثقيفيَّة وتَعليميَّة، أدَّت إلى ظهور الجماعات (المُتطرِّفة)، ما يعني أنَّ
التَّطرُّف الدِّيني ليس سببًا من أسباب خراب مجتمعاتنا؛ إنَّه نتيجة.
ونضيف: نتيجة حَتميَّة.
بالأخير، سأل دبُّورُ
زيدانَ: ما الحَلّ؟
فأجاب: أن يتَعقَّل هذا
الإنسان، ويعرف أنَّ الآخرين هم مرآته.
فسأله: لكن كيف تصل هذه
المفاهيم إلى النَّاس؟
ـ تصل بالفَنّ. تصل
بالتَّصوُّف بمعناه الإنسانيّ العامّ. تصل بالتَّعقُّل. تصل بالشَّغف بالمعرفة.
تصل بتصحيح المفاهيم المغلوطة التي استقرَّت في الأذهان زمنًا، وترَسَّخت، وظَنَّ
الظَّانُّون أنَّها صارت مُقدَّسة، وهي ليست بمُقدَّسة، ولا راقية.
لقد اقترح زيدان طُرقًا
محترمة لتوصيل المفاهيم الصَّحيحة للنَّاس، ولم يرد على باله أن يطالب باستبعاد
المؤسَّسات الدِّينيَّة، أو الفقهاء، أو أيّ جماعات دِينيَّة أصوليَّة، عن المشهد
العامّ.
لا يمكن، لمُنصِف، إنكار
أنَّ زيدان، في جبيل اللبنانيَّة، مارس قدرًا هائلًا من التَّعقُّل.
زيدان المُتجنِّي
العدائيّ.
أصدر يوسف زيدان كتابه:
"اللاهوت العَربيّ" في 2009م، وقد مضى على إصداره أحد عشر عامًا، وبين هذين
التَّاريخين جرت مياه كثيرة في النَّهر، بحيث لم تعد مصر هي مصر، ولا الوطن العربي
هو الوطن العربي، ولا العالم هو العالم.
حتَّى يوسف زيدان لم يعد
هو يوسف زيدان. لم يعد (هو هو!).
لكن؛ علينا الانتباه إلى
أنَّنا، في 2009م، لم نكن نعرف الرَّجل
حقًّا، لأنَّه لم يكن بعد قد صار نجمًا تلفزيونيًّا يتنقَّل بين الفضائيَّات بهذه
الوفرة التي هو عليها الآن، فلم يكن مُضطرًّا، بعد، إلى أن يبرمج نفسه على غناء
(ما يطلبه المسؤولون)، ليضمن بقاءه في دائرة الشُّهرة والمال.
فيوسف زيدان ـ الذي
قدَّم، في الجزء الأخير من كتابه "اللاهوت الإلهيّ"، حَلًّا مُتعقِّلًا،
لو نفَّذه ولاة الأمور لاستقرَّت مصر ونهضت، وشاع فيها سلام الوئام؛ ذلك الحَلّ
المُتمثِّل في التَّقارب بين الأطياف السِّياسيَّة والدِّينيَّة، والتَّفاهم بين
الاتجاهات المدنيَّة والأصوليَّة، لأنَّه لا سبيل غيره إذا لم يكن بالمستطاع فَضّ
ضفيرة الوشائج الرَّابطة بين الدِّين والسِّياسة ـ ليس هو يوسف زيدان (مُفكِّر!)
الفضائيَّات، بدءًا من 2018م تقريبًا، وحتَّى 2020م تاريخ كتابة سطوري هذه.
لقد تحوَّل الرَّجل، في
الفترة الأخيرة، إلى واحد من العلمانيِّين الذين وصفهم، هو نفسه، في "اللاهوت
العَربيّ" بـ(التَّشدُّد في مذاهبهم).
ولم يكن بمستطاعي
التَّفرُّغ لمتابعة جميع حلقات ولقاءات الرَّجل التِّليفزيونيَّة، ولا عرض جميعها
هنا، فيضيع الجهد والوقت، ويتضخَّم الكتابُ بما هو تكرار مُكرَّر مكرور؛ فإذا كانت
نظرية الشَّجرة وغصنها صحيحة، سنكتفي بإيراد مقتطفات له، من بعض ما شاهدته، رأيتها
تُؤدِّي الغرض من توضيح الصُّورة الذِّهنيَّة الأصليَّة لزيدان، وكشف الغطاء عن
جوهره، الفِكريّ والعَقائديّ، الحقيقيّ.
1 ـ في حوار بإحدى
الفَضائيَّات، من برنامج "رحيق الكتب" أيضًا، حول كتاب "تاريخ موجز
للزَّمان" لستيفن هوكينج، مَرَّ زيدان بالكلام على جاليليو واكتشافه لدوران
الأرض حول نفسها، وأشار، بالطَّبع، إلى دور الكنيسة في مقاومة نظريَّة جاليليو،
وتضييقها عليه شَخصيًّا، ومحاكمته. ثُمَّ قال تعريضًا (بالعامِّيَّة المِصريَّة):
هُمَّا رجال الدِّين كِدَه، بَلوَه عبر التَّاريخ. (بالفصحى): هم رجال الدِّين
كذلك، بلاء عبر التَّاريخ.
قبل أن يستدرك، وقد ركز
عينَيه في عينَي عمرو أديب بنظرة ماكرة: بعض رجال الدِّين المُتزمِّتين بيمثِّلوا
عائق أمام الدِّين..
كانت نظرة عينَيه تعني
أنَّه لا يستثني البعض منهم اقتناعًا بأنَّ هناك رجال دين يَستحقُّون الاستثناء، بل
ليمنع أحدهم من اتِّهامه بالتَّعميم.
أقول: الحقيقة التي لم
يُشر إليها زيدان، وترك كلامه يخبط خبط عشواء، مُلبِّسًا على النَّاس بفكر داعر،
ظالم وفاجر، هي أنَّ مشكلة جاليليو كانت مع رجال الدِّين المَسيحيِّين، في عصور
الظَّلام الأوروبِّي؛ كانت الكنيسة، وقتها، الحاكم الفِعليّ بأمر الرَّبّ. ولم يكن
رَبُّها هو المسيح مُخلِّص النَّاس من آلام الخطيئة. لم يكن المسيح المُحبّ حتَّى
لأعدائه، الذي يسامح، ويعفو، ولا يُخطِّئ الزَّانية. بل كان رَبًّا سُلطويًّا
قاسيًا، مُفتِّشًا في القلوب والنَّوايا، استخلصته الكنيسة من نفوس كهنة عُتِّقت
في الشَّرِّ، فظنُّوا الدِّين سلطة سياسيَّة وتَعليميَّة، فقرَّروا أنَّ الآب
(الله) لا يمكن أن يرسل ابنه العظيم إلى أرض ليست مَركزيَّة، تدور حول غيرها!
يا لعار المسيحيَّة إن
آمنت بذلك!
أيرسل الآب ابنه إلى أرض
أصغر، وأقَلّ، من أن تكون مركزًا للكون؟!
تعسًا لجاليليو.
لا بُدّ من أن تكون الأرض
محورًا عظيمًا للكون؛ يجب أن تكون هي الثَّابتة، وما حولها هو الذي يطوف بها.
فحارب رجال الدِّين
المَسيحيّ جاليليو، وحاربوا غيره من العلماء، الذين تُصرّ اكتشافاتهم العِلميَّة
على أنَّ حجم الإنسان في الكون أصغر من أن يُذكر. وأنَّ المسيح أُرسِل إلى بشر لا
يكادون يذكرون، يعيشون على أرض لا تكاد تُذكر.
أزمة العلماء، تلك، لم
يتعرَّض لها المسلمون منهم.
فلم يترَصَّد الإسلامُ
للعلم، بل العكس: حابى الإسلام العلم، فكان دائمًا ما يُقدِّم الفقهاء والعلماء
المسلمون، إذا اكتُشِفت نظريَّات عِلميَّة جديدة، في أيِّ علم من العلوم، الآيات
الدَّالَّة من القرآن الكريم على صِحَّة ما تَوصَّل إليه العلم؛ حتَّى أنَّ البعض
خشي من هذا المسلك، لتَغيُّر العلم، فكان اعتراضهم: لماذا نربط الثَّابت (الدِّين)
بالعلم (المُتغيِّر)؟
والإجابة سهلة: لا يخشى
الإسلامُ تَغيُّر العلم، فلديه من سعة الوعي الفِقهيّ ما يستوعب العلم، مهما
تغَيَّر بتَغيُّر نَظريَّاته.
لكن، إذا كان يوسف زيدان،
ومن على دربه، لا يقصدون الحَقَّ بقدر ما يقصدون الهوى، وما في الهوى مِمَّا
يَظنّونه مكاسب لهم، فسيتجاهلون استثناء رجال دين يتفَهَّمون العلم من رجال دين
يحاربون العلم.
ولأنَّهم يستهدفون
الإسلام تحديدًا، فلن يَلفِتوا الانتباه إلى أيٍّ من مواقف رجاله الإيجابيَّة.
2 ـ وفي حلقة أخرى من نفس
البرنامج، وكانت بتاريخ 19 مارس 2018م، مع الإعلاميّ نفسه، عمرو أديب، لمناقشة كتاب
"الفتوحات المَكيَّة" لابن عربيّ. استعرض زيدان جزءً من معاناة ابن
عربيّ بسبب رؤيته الصُّوفيَّة، ما اضطرّه إلى مغادرة بلده؛ فقال زيدان بنبرة مفعمة
بمزيج من الاستهجان والسُّخرية: أرجَّح مغادرته للأندلس سنة 600 هجريَّة.. بعد ما زهَّقوه.. اللجان
الألكترونيَّة بتاعة وقتها.. الفقهاء.
يقصد زيدان القول بأنَّ
فقهاء السُّنَّة، (أكيد من السَّلفيِّين)، ضَيَّقوا على ابن عربيّ حتَّى ألجأوه
إلى مغادرة الأندلس.
وهكذا يواصل الرَّجل
تدليسه لبناء مغالطاته الكبرى؛ فللحقيقة روايات أخرى غير التي أوردها، أقربها إلى
الصِّحَّة ما رُوِيَ عن ابن عربيّ من قوله إنَّه وهو في حال اليقظة، يقف أمام عرش
الله، والعرش يسبح فوق لهيب مُتفجِّر، رأى طائرًا يُحلِّق حول العرش؛ وأنَّ ذلك
الطَّائر قد أمره بالرِّحلة إلى الشَّرق، وبأنَّه سيكون مرشده إلى هناك.
هو إذن أحد التَّجليَّات
الصُّوفيَّة ما دفع بابن عربيّ إلى مغادرة الأندلس، وليس تضييق الفقهاء
(السَّلفيين) عليه؛ كما يشيع زيدان. فلو أنَّ الصُّوفيَّة تغادر كُلَّ مكان يضيقه
عليها فقهاء السُّنة لما وجدت مكانًا لها في بلاد الإسلام.
3 ـ في نفس الحلقة قال زيدان إنَّ ابن
عربيّ لم يرجع، في أثناء كتابته الفتوحات المَكيَّة، لأكثر من عشرة أحاديث، لأنَّ
استلهاماته، واشتباكاته، دائمًا كانت من، ومع، القرآن؛ واستطرد: إنَّما الأحاديث
دي بيلجأولها الفقهاء.. عشان فيها أكل عيش.
وهنا نرغب في الإشارة إلى
أنَّ ما أورده زيدان، بخصوص اعتماد مُؤلِّف الفتوحات المَكيَّة على عشرة أحاديث نَبويَّة
فقط، محض جهل زَيدانيٍّ من النوع المُركَّب؛ إذ بمحاولة تبيُّن ما أنبأنا به زيدان
بخصوص هذه النقطة عثرت على دراسة لباحث أندونيسي اسمه "أكوس شمس الهدى
مستغفري أسرار"، قدَّنها لمعهد بحوث ودراسات العالم الإسلاميّ بجامعة أُمّ
درمان الإسلامية لنيل درجة الماجستير، بعنوان: "الأحاديث والآثار الواردة من
كتاب الفتوحات المَكيَّة ـ من أوَّل الكتاب إلى وصل في فصل سجود السَّهو لموضع
الشَّك ـ للشيخ الأكبر محيي الدِّين أبي عبدالله مُحمَّد بن عربي، تخريجًا
ودراسة"؛ حيث يقول الباحث في مقدمة دراسته: "أمَّا الأحاديث والآثار في
هذا البحث فقد بلغت 456 حديثًا، منها الصَّحيح، والحسن، والضَّعيف، والضَّعيف
جِدًّا، والموضوع"؛ فإذا كان أربعمائة ونيِّف حديثًا شريفًا أُحصِيت في جزء
بسيط من الفتوحات، فكم حديث شريف إذن ضمَّتها جميع الأجزاء؟ يُمكننا توَقُّع إحصاء
أكثر من ألف حديث على الأقل، لا مُجرَّد عشرة أحاديث بحسب التَّصريح الفاسد
لزيدان.
4 ـ وعلى نفس النَّهج، الذي ينال به من
الفقهاء، يقول زيدان: لم يهاجم الصُّوفيُّون الفقهاء أبدًا، لكن الفقهاء يهاجمون
الصُّوفيِّين دائمًا.
ولنا هنا تعليق غاية في
الإيجاز: الصُّوفيون لا يهاجمون أحدًا، هم حتَّى لا يهاجمون من يستعمرون أوطانهم،
لذلك تجد المَودَّة موصولة، دائمًا، بين حكومات المستعمرين وصوفيَّة الأوطان
المُستعمرة، وربما هذا من أسباب مهاجمة الفقهاء للصوفيِّين، وأظنُّه سبب كافٍ لكي
يهاجمهم المُثقَّفون والوطنيُّون أيضًا.
ثُمَّ بسخرية واستهجان
يستدرك زيدان قائلًا باللهجة المِصريَّة: تظلّ الشَّريعة والأحكام والبتاع دي
مطلوبة.
يريد القول بأنَّ
الشَّريعة، والأحكام، والبِتاع، (لا نعرف ماذا يقصد بالبِتاع)، مُجرَّد أكل عيش
يطلبه الفقهاء.
إذن؛ يوسف زيدان مَوضوعيّ
الأمس ليس هو يوسف زيدان مُتجنِّي اليوم، الذي لا يطيق سماع رأي رجال الدِّين
الإسلاميّ، تحديدًا، في أيِّ منحى من مناحي العيش، فيطالبهم دائمًا بالذِّهاب
بعيدًا عن الحياة، والجلوس في الرُّكن البعيد الهادي منها.
إنَّه هو من يقصيهم الآن،
فصار يتكَلَّم ويفعل كما يتكَلَّم ويفعل (العلمانيُّون)، وقلنا إنَّه سخر في كتابه
"اللاهوت العربَيّ" من منهج العلمانيِّين، المُتعسِّف حد الغباء!
بل إنَّ سخطه وسخريته
تعدَّيا رجال الدِّين إلى الدِّيانات (الرِّساليَّة، كما يحلو له تسميتها)
الثَّلاثة، حتَّى أنَّ أحد متابعيه على صفحته، في أحد مواقع التَّواصل الاجتماعيّ،
وفي بَثٍّ مباشر منها، سأله عن ديانة هيباتيا.
وهيباتيا عالمة رياضيَّات
وفلك رومانيَّة، عاشت في الإسكندريَّة قديمًا أيَّام الاحتلال الرَّوماني لمصر،
انتهت حياتها نهاية بشعة على يد مجموعة مُتطرِّفة من المسيحيِّين، رأت تلك
المجموعة أنَّ هيباتيا وَثنيَّة تهاجم المَسيحيَّة بأفكارها الفلسفيَّة، فسحلوها
في الشَّوارع، حتَّى تمزق لحمها، ولفظت أنفاسها مفرَّقة الأوصال؛ حدث ذلك في القرن
الثَّالث بعد الميلاد.
فأجاب زيدان متابعه على
الهواء مباشرة، وبنبرة استعلائيَّة، فيما ينفث دخان سيجارته: ديانة إيه! هيباتيا
دي كانت حاجة فوق الأديان والكلام الفارغ ده.
الأديان عند زيدان
مُجرَّد كلام فارغ.
وكان قد أشار في أحد فصول
كتابه "اللاهوت العربي" إلى أنَّ الله، في الدِّيانات
"الرِّساليَّة!" الثَّلاث، كان دائمًا إلهًا عنيفًا، فهو في اليهودية
غضوبًا، حقودًا، يعشق الانتقام، ويسفك الدِّماء، ويحب رائحة الشِّواء، ويصارع
البشر؛ ولم يمنع المسيحيِّين من ممارسة القتل والعنف باسمه، حتَّى أنَّ أفظع
الحروب العالميَّة فجَّرها المَسيحيُّون؛ كما أنَّه أمر المسلمين بالقتال،
والجهاد، وإعداد القُوَّة والسَّلاح. فأين هذا الإله الدَّمويّ المحارب من الآلهة
الوَثنيَّة رقيقة القلب، مثاليَّة التَّسامح ، تقبل التَّعدُّد، وتتَمثَّل في صور
الإناث.
كأنَّه يريد القول بأنَّ
تلك الأديان الوثنيَّة هي التي يحِقّ لها أن تكون فوق الأديان (الرِّسالية)، أو
(الإبراهيميَّة)، أو أي إلحاقٍ ما يُفضِّل زيدان وصفها به، المهم أن يكون إلحاقًا
بعيدًا عن أن توصف معه بـ(السَّماويَّة).
الخاتمة
زيدان في الميزان
ها نحن قد وضعنا
الدُّكتور يوسف زيدان في كفَّة، ووضعنا المروءة في الكفَّة المقابلة.
مروءته كشخص يُقدَّم لنا،
في المحافل الإعلاميَّة والثَّقافيَّة، باعتباره "مُفكِّرًا".
لكن المفكر لا يخطئ
أخطاءً لا حصر لها ولا عَدّ.
المُفكِّر، إذا كان
بشرًا، فلا بُدّ له من أن يخطئ، لكن نادرًا، لأنَّه يُفكِّر قبل الإجابة. وإذا لم
يتوَصَّل إلى إجابة، لا يخجل من إعلان عدم امتلاكه إجابة في الوقت الرَّاهن.
مروءته كمُفكِّر تستدعي ذلك.
وقد يخطئ المُفكِّر،
فيسرع بالإجابة سهوًا، لكن فور معرفته بخطئه يتداركه في الحال. مروءته كمُفكِّر
تستدعي ذلك.
ولم يفعل زيدان ذلك إزاء
أيّ خطأ من أخطائه الكثيرة!
***
أمَّا الهمز، واللمز،
والغمز، فجميعها أفعال اللئام، والمُفكِّر لا يكون لئيمًا ولا قدَّاحًا؛ مروءته
كمُفكِّر تمنعه من أن يكون كذلك.
وقد أتى يوسف زيدان، كما
طالعنا بهذا الكتاب، من هذه الصِّفات الرَّديئة الثَّلاث الشيء الذي لا يمكن أن
يكون معه مُفكِّرًا بالهيئة العقليَّة الرَّاجحة المعروفة عن المُفكِّر.
***
المُفكِّر لا ينحاز إلى
موقف، أو إلى فكرة، فيتسَلَّل إلى دهاليز الغرائب، وشذاذ المجهولات، والمسندات
المُنكرات، ليأخذ منها دعامات يشدّ بها ما انحاز إليه؛ المُفكِّر يُكوِّن الفكرة
بصحيح الاستدلالات، وبسليم الاستنباطات، فإن لم يجد صحيحًا، أو سليمًا، هجر فكرته
غير آسف عليها. مروءته كمُفكِّر تستدعي ذلك.
أمَّا يوسف زيدان، فقد
رأينا كيف أنَّه يذهب إلى حيث يُراد منه أن يذهب، وقد جلب معه من الدَّهاليز
التَّاريخية الشَّاذة ما يُلبِّي به المطلوب منه. لقد صار ترزيَّ أفكارٍ، يُفصِّل
المواقف على هوى من يكافئ مجهوداته.
***
المُفكِّر لا يكون
بوجهَين؛ بل له وجه واحد، ولسان واحد، وقلب واحد. مروءته كمُفكِّر تستدعي ذلك.
أمَّا زيدان فمُتعدِّد
الوجوه، مُتعدِّد القلوب، مُتعدِّد الألسنة؛ في جبيل اللبنانية له وجه ولسان وقلب
غير الوجه واللسان والقلب في فضائيَّات مدينة الإنتاج الإعلاميّ بالقاهرة المصريَّة.
وهو في بعض كتابه
"اللاهوت العَربيّ" غيره في البعض الآخر منه.
***
المُفكِّر واضح
الأيديولوجيَّة والعقيدة، فلا يخدعك، أو يُلبِّس عليك؛ إنَّه لا يعاملك كصيد
يتنكَّر لك في الهيئة التي تطمئن إليه بها، حتَّى إذا اقتربت منه اصطادك. مروءته
كمُفكِّر تستدعي ذلك.
أمَّا يوسف زيدان
فيتنكَّر لك في إهاب المُفكِّر (المسلم)؛ مع ذلك فإنَّ ما يفلت منه من سقطات
مُحقِّرة للأديان السَّماويَّة، وللإسلام بأكبر قدر من التَّحقير، (لا أقول:
يُحقِّر رجال الدِّين)، وتعظيمه للوثنيَّات مرَّة، ولللادينيَّة مرَّة، تظهر لنا،
بما لا يدع مجالًا للشَّكّ، أنَّ زيدان قد يكون مؤمنًا بوحدانيَّة الله، لكنَّه
ليس مؤمنًا بالأديان السَّماويَّة الثَّلاثة؛ التي رأينا كيف أنَّه في كتابه
"اللاهوت العَربيّ" لا يعتبرها أديانًا سماويَّة، بل رساليَّة
إبراهيميَّة. أي أرضيَّة عائليَّة.
فإذا كان يوسف زيدان لا
دينيَّ، فعليه إعلان ذلك بجرأة ونبل المُفكِّر، وليتأكَّد من أنَّنا ـ في حال فعل
ذلك ـ سندافع عن حَقِّه في حُريَّة التَّفكير كرجل لادينيّ يتمتَّع بمروءة
الرَّجال.
لكن أن يهرف في الإسلام
بزِيٍّ تنكُّريٍّ إسلاميّ، ليظل مُتمتِّعًا بعطايا المجتمع الإسلامي، ففي هذه
الحال تكون كفَّة الميزان قد طاشت به تمامًا، وأسقطته على الأرض مثل زيتونة سوداء
صغيرة، تظَلّ تتدحرج على الأرض دحرجة خنفساء لن تعدم قدمًا تدهسها سهوًا أو عمدًا.
تَم
إرسال تعليق